نشرت مجلة "العربي"، في عددها الأخير رقم 669 قصة قصيرة للأديب والكاتب الصحفي الجزائري المتميز مرزاق بقطاش، حملت عنوان "قدم هنا .. وأخرى هناك"، يطرح فيها صاحب "دار الزليج" عددا من الأسئلة عن الحواجز الجغرافية والحضارية وكذا المتعلقة بالثقافة والهوية، حيث يعود بالقارئ إلى المتناقضات عبر قصة أحمد ابن المغترب الذي يحلم بتحقيق حلم عجيب، معتمدا في ذلك على التاريخ تارة وعلى التراث والفنون تارة أخرى، مانحا القارئ فرصة الإبحار في عالم فيه الكثير من التشعبات والمواقف الإنسانية والاجتماعية منها الواضح ومنها المبهم. «قدم هنا.. وأخرى هناك" تدور أطوارها حول أحمد، الذي أراد أن يقفز فوق الحواجز عندما عقد العزم على أن يؤدي مقطوعة "توكاتا" ليوهان سيباستيان باخ، في كاتدرائية "نوتردام" بباريس، وهو ما اعتبره والده المقعد مزاوجة بين أمرين متناقضين "جسدا وروحا"، فأحمد هو "بقايا مسلم" سخر منه الجميع عندما اختار آلة البيانو أداة للعزف وهي الآلة التي لا وجود لها إلا داخل الفيلات الفخمة أو الكنائس. وفي رحلة البحث عن إجابات معقولة، يدعونا بقطاش، لمواصلة المسير مع أحمد علّه يحقّق حلمه، فابن المغترب القادم من أعماق الريف الجزائري الباحث عن لقمة العيش، يتخطى الحواجز كلها ويدخل كنيسة قروية عتيقة مرتديا "برنوسه القهوي"، وعلى عادته الإبداعية يخوض صاحب "طيور الظهيرة" و«الكابران" و«دم الغزال" في وصف البيئة، حيث تدور أطوار هذه القصة القصيرة "المنطقة الجبلية النائية القريبة من جبال الألب المرصّعة بالثلوج". وسرد بقطاش، علاقة أحمد ابن المغترب وموريس راعي الكنيسة الفرنسي الأصيل، والتي بدأت عندما كان الأوّل يستعد لتحضير أطروحة عن موسيقى باخ، والثاني كان يدرس اللاهوت ويعشق الموسيقى الكنسية عشقا جنونيا، وأوضح أنّ تقاربهما في السن هو الذي وثّق الصداقة بينهما، بالرغم من تباعد ما يؤمنان به في مجال الدين، كما فضّلا عدم خوض غمار الحديث في السياسة أبدا إدراكا منهما أنّ التطرّق إليها والحديث عن العلاقات المتوترة بين بلديهما لابدّ أن يفسد كل شيء حتى وإن اتفقت أفكارهما حول بعض المواضيع. قرّر أحمد أن يعزف مقطوعة "توكوتا" في لحظات الفجر الأولى وفي قلب الصقيع في أواخر شهر ديسمبر، ورغم محاولات موريس، أصرّ على تحقيق رغبته العجيبة على آلة الأورج، فكانت جرأة لا نظير لها في تاريخ الكنيسة، بل في تاريخ العلاقة بين مسلم ومسيحي، وكانت المعضلة أمام أهل القرية "مسلم في كنيسة يعزف مقطوعة باخ عند الفجر"، وعندما همّ دركيون باعتقاله بأمر من رئيس البلدية، يتساءل أحد العارفين بالموسيقى عن سبب اقتياد أحمد إلى المخفر صاحب الموهبة الفذّة الذي تجرأ على فعل مجنون.. ليبقى مصير أحمد معلّقا عند شفتي موريس راعي الكنيسة. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ مجلة "العربي" التي كان يرأس هيئة تحريرها الدكتور كمال زكي رحمه الله قد خصصت في عددها الأوّل شهر ديسمبر من عام 1958 بالكويت، ملفا كاملا للثورة التحريرية الجزائرية. وقد عالجت المجلة منذ صدورها أبرز المستجدات العربية والعالمية وشاركت في تحريرها كوكبة من أبرز الكتّاب والأدباء والمفكّرين العرب أمثال طه حسين، عباس محمود العقاد، نجيب محفوظ ونزار قباني، يوسف ادريس وصلاح عبد الصبور وغيرهم، ولم تتوقّف المجلة خلال مسيرتها الثرية عن الصدور سوى سبعة أشهر فقط وذلك خلال الغزو العراقي للكويت.