اختُتمت مؤخرا بقصر "رياس البحر" فعاليات معرض "صور ووجوه" من توقيع الأستاذ أحمد بجاوي والفنان دوني مارتيناز، قدّما فيه عيّنات من جزائر الستينيات والسبعينيات التي شهدت أحداثا ثقافية وفنية، تركت بصمتها على الذاكرة، كما استعرضا علاقتهما كمثقفين جمعتهما حياة مشتركة بالجزائر. اجتمعت هذه الذكريات المشتركة لتتجلى في ساحات الفن السابع الذي كانت له نكهة متميّزة في هذه الفترة من عمر الجزائر المستقلة، حيث ضمّت غرف الطابق الأرضي من القصر العديد من الأعمال المعروضة، أغلبها عبارة عن صور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، ومقالات صحفية وملصقات أفلام سينمائية وغيرها. وتتحدّث أغلب المقالات الصحفية إمّا عن الحركة السينمائية أو عن الفنان مارتيناز. وعُرض، مثلا، مقال لجريدة "الجزائر أحداث" بالفرنسية صادر في فيفري سنة 1968، يستعرض أعمال مارتيناز، ويحاول الكشف عن مدى الترابط بين الفن التشكيلي وهوية الشعب، وتُعرض أيضا بالطابق الأرضي بعض الصور الفوتوغرافية التي تعكس الأجواء الفنية السائدة في تلك الفترة، منها مثلا سهرة فنية بالبليدة سنة 1965، وصور للفنان مارتيناز مع مجموعة من الجزائريين ترجع لسنة 1967، وأخرى لنفس الفنان بالبليدة ومع جمهوره بهذه المدينة الجميلة ابتداء من سنة 1965، وتُظهر صور أخرى مدى ارتباط الفنان بالجمهور الصغير بدار الثقافة للبليدة سنة 65. وتعود الصور بالذاكرة إلى "سيني بوب"، وهو ناد يستقبل جمهور السينما، وهناك صور ترصد تفاصيل إدارة تصوير وإنتاج الأفلام الجزائرية، بعضها كان يصوّر بساحة أودان بالعاصمة، ومع ألمع الفنانين الفرنسيين لتلك الفترة، منهم غافراس وإيف مونتون، وصور أخرى لأفلام الراحل يوسف شاهين، منها لقطة مع كويرات وماجدة الرومي في فيلم "عودة الابن الضال"، وصور أخرى لمشاهد تصوير فيلم "الخارجون عن القانون" لتوفيق فارس سنة 1969، يظهر في إحداها البطل سيد أحمد أقومي. كما تتوالى الصور ليخرج منها الفنان الراحل عبد القادر علولة وأخرى لمحمد خدة في أحد معارضه بالمدرسة العليا للفنون الجميلة، وصور للفنان محمد العنقى بمحطة القطار رفقة فنانين آخرين يتأهبون لجولة فنية. ومن الصور الجميلة أيضا صور للمسرح الوطني وبعض رجالاته، وعلى رأسهم الراحل محمد بودية في لقطة مسرحية. ومن جانب السينما، يظهر بعض نجوم الشاشة الفضية العالمية الذين زاروا الجزائر، واستقبلهم بجاوي في مكتبه بالسينماتيك، وكان منهم آن وجون ميتشال أرنولد، ثم يظهر كوستا غافراس مع جون لوي، ومن رجال السياسة الراحل محمد الصديق بن يحيى وزير الإعلام حينها (1969). وتتكرّر صور بجاوي، وهو شاب يقتحم بلاطوهات التصوير الداخلية والخارجية، خاصة في فيلم "زاد". ويرصد المعرض أيضا الزمن الذهبي للسينما الجزائرية؛ أي في الستينيات والسبعينيات، وكيف كانت قاعة السينماتيك مثلا تشهد الازدحام، وكيف كانت العروض تعرف نقاشات ساخنة بين الجمهور والمخرجين منهم حتى المخرجين العالميين. ويعكس المعرض أيضا مدى علاقة الفنان مارتيناز ذو الأصول الإسبانية بالشعب الجزائري وبمثقفيه، منهم الفنان الكبير شكري مسلي، ثم بالراحل أبو بكر بلقايد وأيضا مع جون سيناك سنة 1968 المدافع عن الجزائر. وعُرضت في ساحة القصر (وسط الدار) العديد من ملصقات أفلام وحفلات وتظاهرات تلك الفترة. وقد استغلها مارتيناز في تحقيقه "صوت العالم"، وكان منها فيلم "تحيا يا ديدو"، وصورة لمشهد تصوير مع الراحل محمد زينات، وصور ضخمة لبعض أسطوانات تلك الفترة، منها "يا طويل الرقبة" لأحمد وهبي، و"سيدي سحنون" للعنقى. وعُرضت صور فوتوغرافية لمشاهد أفلام هوليوودية، كانت تُعرض بقاعات السينما بالجزائر العاصمة بعد الاستقلال. ملصقات أخرى عن "أسبوع التضامن مع الشعب الشيلي" بمبادرة من الديوان الوطني للتجارة والصناعة والسينماتوغرافية، وكذا عن النضال الآسيوي الإفريقي من خلال محاربين تقليديين، كُتب أسفلهما "كفاح الأمس واليوم"، وملصقة أخرى عن "السينما الاستعمارية"، ولقاء آخر سينمائي دولي بالسينماتيك سنة 1967 وكذا "أسبوع السينما الكوبية" في نوفمبر من نفس السنة، و"التعبير الألماني" في 1965. وعاد المعرض بالجمهور إلى تظاهرة المهرجان الثقافي الإفريقي الأوّل الذي احتضنته الجزائر سنة 1969، وذلك من خلال ملصقات تحمل بعض الأساطير الشعبية الإفريقية، وبعض الملامح عن السينما المصرية. وتمتلئ غرف الطابق العلوي بصور بلاتوهات تصوير الأفلام خاصة الثورية منها، مثل فيلم "الفدائي" سنة 1969، إضافة إلى عرض محاضر التصوير المكتوبة بآلة الرقن وباليد أيضا بخط مخرجيها ومدراء إنتاجها، وكذا عرض برامج التصوير والعروض. وعُرضت في الطابق العلوي أيضا لوحات تشكيلية للفنان مارتيناز، أغلبها بالأبيض والأسود، بعضها يصوّر شخصيات جزائرية، وأخرى تعرض بعض الحياة اليومية للجزائريين منها، مثلا اللغة اليومية المشتركة بعبارات "صحيت" ولاباس" و"راهي تمشي" وغيرها. ويبقى المعرض تجربة جميلة جمعت فنانا تشكيليا وسينمائيا، تعيد في كلّ مرة إحساس الحنين إلى الواجهة، خاصة أنه يرتبط أساسا بالعشرية الأولى لاستقلال الجزائر؛ حيث كان الانفجار الفني والثقافي والفكري الذي ميّزه تعايش الأفكار والقيم؛ مما عزّز مكانة الجزائر بين شعوب العالم، ويعكس المعرض أيضا صداقة فنية وثقافية ورؤية تبنّتها دولة فتية لتؤسّس تمجيدا وتوثيقا لثورتها الإنسانية.