لعل أطرف تعليق سمعته في حياتي عن بعض الغناء الأندلسي الجزائري، هو ذلك الذي قاله أحد المخضرمين من عمال الإذاعة الجزائرية، وكان ذلك التعليق في شكل التساؤل التالي: "أتقصد، يا هذا، ذلك المطرب الذي يرتكب نفس الخطأ النحوي منذ خمسين سنة كاملة؟"، وهو يعني بذلك أن بعض الغناء الأندلسي الذي نسمعه بين الحين والآخر، مازال على حاله؛ أي إن المطرب، أيا كان هذا المطرب، مازال يردد كلاما لا يفهم معناه فهما جيدا، ومن ثم، فهو لا يتذوق ما يقوله أصلا. وبالفعل، الكلمات مكسورة، وقد لا يكون هذا الكسر متعمدا؛ لأنه صادر عن جهل عقيم. كلمات بعض الأغاني الأندلسية تعود إلى قرون خلت، وواضعوها يقدّمون أوصافا عن المجتمع الذي عاشوا فيه، سواء في الأندلس خلال أيامها الأخيرة، أو في كامل أنحاء إفريقيا الشمالية، هي كلمات تعجّ بالخمريات وبمختلف أنواع الترف والمجون. شخصيا، عندما أسمع صوت مطرب يغني كلاما أندلسيا قديما لا يكاد يُعرف معناه، أصاب بالقرف، بل وبالغثيان؛ فما بالكم بمثل هذا المطرب الذي يكون قد نيّف على الثمانين، ومازال يردد: "اسقني كؤوس الخلاعة"، أو "تعجبني الخلاعة لأنني وليع"؟ وما بالكم بالمطربة التي نقول عنها إنها تغني كلاما أندلسيا رقيقا وهي تكسر النحو والصرف؟ ثم ما الذي يحول بين منشدي تلك الأغاني والإبداع في مجال التلحين، ونظم مثل هذا الكلام السخيف؟ أليس لدينا شعراء قادرون على وضع كلمات تناسب هذا العصر الذي نعيشه؟ إننا نعرف أن الموسيقى الكلاسيكية في ألمانيا، على سبيل المثال لا الحصر، خرجت من بطن الأغاني الشعبية الجبلية. "السمفونية" و«الكونشرتو" و«السوناتا" وغيرها من الأجناس الموسيقية الأخرى، إنما وُلدت من تلك الأغاني الجبلية بالذات؛ فلقد جاء من أعمل فكره ووجدانه، واستخرج منها قوالب موسيقية جديدة أخذ بها المبدعون الموسيقيون بعد ذلك في أوربا الغربية، وترسخت في وجدان الناس عبر العالم أجمع؛ فهل هناك عندنا من ينهج هذا النهج ويبدع لنا أشكالا موسيقية جديدة تناسب زمننا هذا، وتسمو نظما ولحنا على تلك الصور السخيفة التي تمجّها الأذواق السليمة في هذا الزمن؟ قبل ستين عاما، قدّم الموسيقار الراحل "محمد إيقربوشن" نماذج موسيقية ناجحة، لكن الخلف لم يحترم السلف! وقد كان "إيقربوشن" رائدا حقا في هذا المضمار بحكم تمكنه من أصول الموسيقى العالمية، ومعرفته بالثقافة الأوربية القديمة والحديثة. إن ما يحز في النفس هو أن الموسيقيين الجدد عندنا ومعظم الذين يؤدون الألحان الأندلسية، راقهم أن يبقوا على نفس الحال، وأن يتمعشوا بنفس الطريقة على حساب أذواق الناس. عبقرية الحاج "محمد العنقاء" لم تتكرر. جاء في زمن استعماري معتّم، واستطاع أن يستخرج من الفن "الحوزي" أو "العروبي"، فنا شعبيا جديدا مازال يرضي الجزائريين. حقا، هو لم يبدع سمفونية أو سوناتا من ذلك الفن القديم، لكنه تمكن من أن يتفرد عن غيره من الموسيقيين والمطربين بأن صاغ شكلا موسيقيا وغنائيا جديدا حسده عليه مؤدو الأغاني الأندلسية في زمنه. وصار له أتباع وأنصار. ومازلنا ننتظر أن يخرج من صلب ذلك الغناء الشعبي الذي استحدثه الحاج محمد العنقاء من يبدع ألوانا موسيقية جديدة تجتذب إليها الأذواق في الجزائر وفي العالم. يبدو أنه يتعين علينا أن نقف في المحطة منتظرين أن يولد جيل جديد ينطوي على همة قعساء من أجل الخروج بالموسيقى الأندلسية من مرحلة "الأغلاط النحوية والصرفية". وبالفعل، فما عاد ل "الصور الحسية المبتذَلة" من معنى آخر سوى أنها تدلّل على الحضيض الذي نزلنا إليه في مجال الموسيقى والإبداع بصورة عامة.