لا يمكن لأحد أن ينكر مكانة الشيخ اعمر الزاهي في الذاكرة الفنية الجزائرية، والشعبية منها على وجه الخصوص، فهو مدرسة قائمة بذاتها، رسم لنفسه طريقا متميزا، حتى وإن مشاه لكن بخطى واثقة من فرط حبه لما يقدّمه، زاده في ذلك حب الناس والزهد في ملذات الحياة، فهو من ترجم لوعة الحبيب، وعكس العشق الأزلي وغنى ببحة صوت فريدة ما يدور في خوالج الحبيب، وقدّم دروس الحياة لمن يعتبر. كان الزاهي الأسطورة بحق، زاده هيبة ووقارا ابتعاده عما يمكن أن يعكّر صفاء سريرته، ويقلق باله وينغص طِيبة قلبه. اعمر الزاهي الذي رافقه الآلاف إلى مثواه الأخير بمقبرة «القطار» المطلة على خليج الجزائر، عاش بسيطا، ومات بسيطا وخلد في الأذهان ببساطة، واقترن اسمه بالشعب، وأكّدت كلّ الألسن على تميّزه الفني وسموه الروحي، وما الأمواج البشرية التي أبت إلا أن تودّعه في مثواه الأخير ولم تسعها الشوارع المؤدية إلى «منحدر أرزقي لوني ‘رونفالي'، إلا دليل على عظمته، كان عظيما في حياته وفي مماته، عظيما بكبريائه وأنفته.. عظيما في إنسانيته وفنه.. عظيم وكفى. بعد أن سارت شائعات كثيرة حول حالته الصحية ترجّل الفارس النبيل، ورحل إلى عالم أفضل، تاركا علامات فارقة في خزان أغنية الشعبي في الجزائر، فمن منا لم تمتعه «مريومة» و«أنا براني غريب»، و«زينوبة» وغيرها كثير من الأغاني التي اتفقت مختلف الأجيال على حفظها عن ظهر قلب، لما تحمله من معان جميلة وراقية، معان تعكس سمو الروح، وتترجم تضارب المشاعر والأحاسيس.. «اعميمر».. قامة عمادها التواضع والبساطة «اعميمر» كما يدلّعه الجزائريون، رحل دون أن ينير زوايا الظل في حياته، فهو الذي أحاطته الكثير من الحكايا، خاصة في الشق المتعلّق بحياته الشخصية وتجاربه العاطفية، فكلّما قدّم أغنية تحمل اسم فتاة قيل إنّها المعشوقة الغامضة التي من أجلها عانق طوال حياته الحزن والإبهام، فضلا عن رفضه اقتراب الإعلام منه، فكان المقربون منه يتولون مهمة ردّ الطارقين بابه في العديد من المرات. اعمر الزاهي هو رمز الجزائر، ليس العاصمة فقط، بل من الحدود إلى الحدود.. هو رمز «زواليتها» الذين يرون فيه أنفسهم بمشاعرهم المتضاربة، بعزة أنفسهم وبابتعادهم عن «المشاكل» حتى وإن كانت «فنية»، فكم من جزائري قصد عرسا دون أن يكون مدعوا، وقفز على الأعراف من أجل أن يستمتع بقعدة شعبية أصيلة ركيزتها صوت «اعميمر»! وكم من عاشق آنسه صوت «اعميمر» وهو يكابد قسوة الفراق! وكم مرة تحسرنا فيها لما آل إليه فن «الشعبي»، فوجدنا في صوت بحة صوت وحضور «اعميمر» بعضا من العزاء!..شكّل رحيل هذه القامة الإبداعية الكثير من الحزن والأسى لدى الجزائريين من عامة الناس، ولدى الفنانين الذين عايشوا تجربته الفنية أو تأثروا لما قدّموا وبات مثلهم وقدوته الفنية. وفي هذا السياق، أعرب فنان الشعبي عبد القادر شاعو لوكالة الأنباء الجزائرية، عن أسفه لرحيل هذا الفنان «الكبير»، معتبرا أنه ارتقى بإبداعه إلى مستوى «الباحث»، خاصة أنه «ساهم بقوة» في توسيع شعبية أغنية الشعبي عبر كل الجزائر، مشيرا إلى أنّ «استلهام الزاهي من مختلف المقطوعات الغربية والموسيقى العالمية، قد صنع أسلوبه الخاص» في موسيقى الشعبي. إنسان استثنائي وفنان كبير وفيما تأسّف الفنان عزيوز رايس الذي يُعدّ صديقا للفقيد منذ ثلاثة عقود، لفقدان اعمر الزاهي الذي يُعدّ «مرجعية ورائدا» في فن الشعبي، توقّف عبد الرحمان القبي على خصال الراحل «الإنسانية الكبرى»، معتبرا إياه «إنسانا استثنائيا» و«فنانا كبيرا». وأضاف أنّ رحيله «خسارة كبيرة» لموسيقى الشعبي والثقافة الجزائرية. ومن جهته، عبّر كمال فرج الله (أحد تلاميذ الحاج العنقا ومدرّس الموسيقى)، عن حزنه لوفاة الفنان اعمر الزاهي المعروف، كما قال، ببساطته وتواضعه، مؤكّدا أنّه «كرّس حياته للفن، وكان كالشمعة التي تنطفئ لتضيء للآخرين». وقال إنّ المرحوم أرسى قواعد أغنية الشعبي التي اكتسبها من مدرسة الحاج العنقا، وأعاد إحياء عدد هام من القصائد القديمة المفقودة».أما الفنان احسيسن سعدي فأشار إلى أنّ الزاهي كان إنسانا متواضعا، وأضفى الحيوية على الطابع الشعبي، مضيفا أنّه ظلّ حتى اللحظات الأخيرة فنانا نزيها ومحترما، بينما تأسف الفنان مهدي طماش لأغنية الشعبي، التي أصبحت - على حد قوله - «تقريبا بدون شيخ في مقام اعمر الزاهي»، الذي بقي متواضعا وبسيطا ومترفعا عن الماديات. الفنان الصاعد كمال عزيز الذي يصفه الجميع بوريث اعمر الزاهي، عبّر عن تأثره الكبير بفقدانه هذا الفنان، الذي كان بالنسبة له بمثابة الأب والأخ والصديق. وحيّا في الفقيد «قمة التواضع» التي كان يتصف بها، معتبرا إياه «الفنان البارع الذي اختار العيش بعيدا عن الأضواء».