تتحضر مختلف المعاصر ببومرداس خلال هذه الفترة، للانطلاق في عصر الزيتون، في الوقت الذي بدأ موسم الجني قبيل أيام بالقرى المترامية على مستوى الولاية لجني غلة الموسم، حيث أكد جل من التقتهم «المساء» على وفرة المنتوج خلال هذا الموسم، إذ تقدره الجهات المختصة بأزيد من 2.5 مليون لتر، وهو ما يجعل بومرداس تتصدر المراتب الأولى في إنتاج زيت الزيتون ذي الجودة العالية. انطلق موسم جني الزيتون في أهم البلديات المنتجة ببومرداس، ومن بينها بلدية بوزقزة قدارة التي تقع جنوب الولاية، والتي تصل بها المساحة المخصصة للفلاحة إلى 782 هكتارا، وهي عموما أراض ملك للخواص ممن يستغلونها في إنتاج مختلف المحاصيل، لدعم الإنتاج المحلي، يأتي الزيتون وزيته من أبرز أنواع الفلاحة بالمنطقة.. فعلى مد البصر بالبلدية الجبلية، ترتفع آلاف أشجار الزيتون، لاسيما من نوعية «الشملال» ذات المردود العالي، والذي يمتاز زيته بالنوعية والذوق الجيد. رغم صعوبة المهمة.. نساء الريف يتجندن لجني الزيتون «المساء» زارت البلدية وتحدثت إلى عائلات تعمل في مجال جني الزيتون، منها من اختارت قصد الحقول عند الضحى بعد إرسال الشمس أشعتها الدافئة، حتى تلطف جو المنطقة الجبلية البارد، وهو حال رقية بولزازن، وأخرى اختارت وقت العصر «حجة وفرجة» بجمعها بين «البيكنيك» أو النزهة وعملية جمع حبات الزيتون بوصفها عملا شاقا، فيعمدن إلى الراحة حول فناجين القهوة والكسرة تارة، ثم يعدن إلى «لاطاش»، مثلما يطلق عليه أحد أرباب الأسر بقرية أهل الكدية. وعلى قارعة الطريق المؤدي إلى قريتي امسطاس وبن حشلاف، حدثتنا سيدة من أعلى شجرة زيتون كانت تلتقط حباتها، قائلة أن شغلها الشاغل خلال هذه الفترة من السنة هو جني الزيتون، معلقة عن غلة هذه السنة بقولها «خير ربي لا يمكن إهداره أو تركه يتساقط أرضا، فيأكله السوس»، فيما تحدثت إلينا سيدة أخرى تقول «صحيح أن جمع حبات الزيتون ليس بالأمر الهين، لكن الخير كبير ولا يمكن إهماله، لأن تعب أيام نجنيه دلاء مملوءة بزيت الزيتون وتلك هي البركة الحقيقة في المنزل». هذا المشهد كان متشابها في القرى المترامية بالبلدية، فبقرية بن حشلاف تقول إحدى السيدات وهي منهمكة في جمع الزيتون، بأن هذا العمل اليدوي متعب للغاية، لأن النساء يواجهن الأشجار بأيديهن وفقط دون استعمال أية تقنية قد تنقص من التعب، أحيانا يعمدن إلى ضرب الأشجار ب«الزلاّط» (غصن خاص يستعمل في ضرب الأغصان لتتساقط الحبات أرضا، ثم جمعها) وهذا بحد ذاته مجهد، كما أن جني الزيتون يكون مرهونا كذلك بحالة الطقس وصفاء الجو، «إلا أنه نشاط فيه الكثير من المتعة»، تقول السيدة تركية موضحة أن بعض النساء (حوالي 8 أو 10 نساء) وهن في الغالب من عائلة واحدة أو جارات، يضعن مخططا لقصد حقل خاص بإحداهن والعمل طيلة اليوم على جني ما أمكن من الغلة، ثم يقصدن في اليوم الموالي حقلا آخر لنفس الغرض، وهكذا دواليك إلى غاية انتهاء موسم الجني، وهن بذلك يجدن متعة كبيرة في الحديث عن مشاغل ومشاكل الحياة، مما يضفي على هذا النشاط متعة خاصة. من جهته، يؤكد الحاج محمد من قرية بولزازن أن جني الزيتون شبيه بالعديد من الحرف التقليدية التي بقيت مرهونة بسواعد النساء الريفيات، ممن بقين محافظات على إرث الأجداد، في الوقت الذي يتقاعس الشباب عن تلقي فنون حرف ومهن «سترت بيوتا وربت أجيالا»، على حد قوله. بين التقليدي والعصري.. عصر الزيت فن له حكمة في قرية بن حشلاف، حدثنا عبد العزيز حشلاف المدعو رابح صاحب معصرة عصرية، وجدناه بصدد التحضير لاستقبال قناطير الزيتون لبدء موسم العصر. المتحدث بدا ملما بكل صغيرة وكبيرة عن الزيتون من الحرث والغرس إلى جني الغلة والعصر، فهو الذي مثّل الجزائر خلال قافلة دول حوض المتوسط حول زيت الزيتون في منتصف العشرية الماضية، ودعا الجهات المختصة إلى تنظيم قوافل تحسيسية بعموم الوطن من أجل ما أطلق عليه «الاهتمام بكنز لا يفنى: شجرة الزيتون المباركة»، فعموم الفلاحين، حسبه، لا يدركون حقيقة التعامل الصحيح مع حبة الزيتون، لاسيما في فترة جني الغلة، حيث أن استعمال ما يسمى «الزلاّط» خطأ جسيم ينجر عنه «كسر الشبوبة»، أي خسارة براعم صغيرة ستنتج في الموسم الموالي، والنتيجة ما هو واقع حاليا؛ الغلة الجيدة تكون موسما واحدا عن كل موسمين. وقد تمكن المتحدث من الاستمرار في حرفة توارثها عن الأجداد وعمل على تطويرها، من معصرة تقليدية إلى نصف آلية، إلى آلية عصرية، رافعا بذلك قدرة الطحن إلى 25 قنطارا في الساعة، وإنقاص الخسارة من 5 لترات في كل قنطار إلى نصف اللتر في القنطار، مبرزا أنه يشغل 7 عمال موسم العصر الذي قد يمتد إلى نهاية فيفري القادم، بالنظر إلى الغلة الجيدة خلال هذا الموسم. من جهته، تحدث محي الدين شريفي صاحب معصرة تقليدية بنفس القرية، والتي تعود إلى عام 1956، عن انطلاق موسم عصر الزيتون وهو الذي وجدناه منهمكا في تحضير معصرته بتنقية الحجرتين البركانيتين العملاقتين اللتان تستقبلان قناطير الزيتون لرحيها، وقال بأن المعصرة التقليدية مازالت تحتفظ بزبائن أوفياء يفضلون العصر التقليدي حبا في المحافظة على إرث الأجداد. أكد المتحدث أن معصرته شهدت بعض التجديد للتقليل من خسارة الزيت عند عملية الرحي، ملفتا إلى أنه يتم رحي ثمانية قناطير في الساعة الواحدة، وأنه يشغل 5 عمال معه في موسم العصر الذي يتهافت فيه الزبائن من كل الأرجاء، في طوابير طويلة تجعل الموسم يمتد إلى غاية الربيع المقبل، داعيا من جهته إلى دعم الفلاحين بالعتاد الجيد للحفاظ على الفلاحة المنزلية والعودة بها إلى الازدهار. يبقى نقص اليد العاملة من أبرز الصعوبات التي يمكن مواجهتها خلال موسم جني الزيتون، حيث أن غرس أشجار الزيتون والعناية بها وحتى جمع الغلة بقيت في بوزقزة قدارة ومناطق أخرى في نطاق العائلة الواحدة، وهو ما يجعل جني الزيتون مرهونا إلى حد كبير برغبة النساء في جمع الغلة، بالرغم من صعوبة التضاريس والتعب الجسماني الكبير الناتج عن ذلك، كما تظهر صعوبة العناية بأشجار الزيتون كونها مزروعة في تضاريس وعرة، كالشعاب والجبال، وتبعد بأميال طويلة عن السكنات، وهو من بين الأسباب التي جعلت المردود يتناقص، بالرغم من الجودة العالية والطلب المرتفع على زيت الزيتون السنة تلو الأخرى. من الجني إلى العصر، حكاية طويلة لحبات الزيتون المباركة التي توقد من زيتها نار تضيء ما حولها، فالصناعة التحويلية لهذه الشعبة الفلاحية وإن بقيت محصورة إلى حد كبير في عصر الزيت، إلا أن بقايا ثمرة الزيتون لها سرها، حيث تتهافت عليها العديد من الأسر بغية استعمالها في التدفئة، لاسيما بالقرى التي مازلت تفتقر للغاز الطبيعي، حسبما استفيد من قرية بن حشلاف. نشير في الأخير، إلى أن سعر زيت الزيتون الذي يتأثر بعدة عوامل، منها ارتفاع سعر الكيلوغرام الواحد من الزيتون لدى الفلاحين بين 50 و780 دج للكيلوغرام مسبقا، إلى حدود 120 دج للكلغ، وهو ما يحصره المنتجون مجملا في صعوبة الجني ونقص اليد العاملة، مما يجعل أسعار زيت الزيتون هذا الموسم تتراوح بين 750 و850 دينارا/ لتر، وهي عموما نفس أسعار الموسم الماضي.