بدأ الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما يكشف شيئا فشيئا عن استراتيجيه إدارته على المستوى العالمي وتحديد الدور الأمريكي في رسم السياسة الدولية للسنوات الأربع القادمة. فقد تعهد الرئيس اوباما الذي سيتولى مهامه بصفة رسمية في العشرين من الشهر القادم بالعمل من أجل تقوية القوات الأمريكية وإبقائها كقوة عسكرية أولى في العالم". وتبقى هذه العبارة ذات مدلولات وأبعاد استراتيجية للسياسة الأمريكية القادمة ورسالة واضحة باتجاه القوى الدولية الأخرى وخاصة المنافسة للولايات المتحدة وعلى رأسها روسيا والصين وحتى إيران وكوريا الشمالية. وإذا كان الرئيس الأمريكي المنتخب أبقى من خلال هذا "التصريح الإطار" على طموح بلاده للبقاء كقوة عالمية أولى إلا أنه كشف كرئيس ديمقراطي عن نظرته القادمة للعديد من القضايا الدولية وعلى أن القوة العسكرية ستبقى أهم محركات السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وهو ما جاء متعارضا مع مواقفه التي دافع عنها يوم كان مجرد مترشح للحزب الديمقراطي وأبدى من خلالها ميولات واضحة لرفض الحروب والعمليات العسكرية التي قادها سابقه جورج بوش في أفغانستان والعراق. وإذا كان الرئيس اوباما قد أثار حفيظة عدة دول من خلال تغليب منطق القوة العسكرية لحسم النزاعات في العالم و"تأديب" كل خارج عن القانون الذي يفرضه القطب الواحد فإنه أثار أيضا حفيظة مناهضي الحرب من الناخبين الأمريكيين الذين استهواهم بخطابه الانتخابي قبل انتخابات الرابع نوفمبر الماضي ومنحه أصواتهم بقناعة أنه سيعمل على إنهاء الحرب في أفغانستان والعراق. والرئيس اوباما بقدر ما فاجأ هؤلاء بمضمون خطابه الذي حمل نزعة عسكرية فإنه خيب أملهم باحتفاظه بروبرت غيتس على رأس البنتاغون رغم أن هذا الأخير أبدى علنيا مواقف معارضة للحرب في العراق، ولكنه من وجهة نظر عملية لم يقم بأي شيء باتجاه إنهاء المغامرة التي تحولت إلى مستنقع حقيقي لقوات المارينز في العراق. وقطع -خطاب اوباما الذي ركز على القوة العسكرية بشكل لافت- الشك باليقين أن ما تعهد به خلال حملته لن يكون بالضرورة موقفه وهو يتولى مهامه بصفة عملية. وقال اوباما بلغة لم تجانب في كثير من مناحيها تلك التي كان الرئيس المغادر جورج بوش يقولها عندما تولى إدارة الرئاسة الأمريكية مدافعا عن قناعة متكرسة لدى صناع القرار الأمريكيين بضرورة إبقاء الولاياتالمتحدة كأكبر قوة عسكرية في العالم، وبأنه سيواصل الاستثمارات الضرورية لتدعيمها والرفع من تعداد القوات البرية بأكثر من 100 ألف رجل. وهي رسالة كافية للحكم على أن الرئيس الأمريكي الجديد إنما أكد من خلال تصريحاته أنه مجرد وجه لعملة أمريكية واحدة وجهها الآخر الرئيس الجمهوري جورج بوش. وحتى استراتيجيته الجديدة في العراق وافغانستان ستكون هي نفسها التي سيعمل على انتهاجها وإن اختلفت تكتيكات تحقيقها مقارنة بتلك التي انتهجها الرئيس جورج بوش. وبفضل هذا المنطق العسكري فإن الرئيس الأمريكي الجديد يريد أن يبتعد بالتدريج عن أفكاره الإيديولوجية التي غذت حملته الانتخابية واستبدالها بسياسة أكثر واقعية. وهو المنطق الذي سيحتم عليه التعامل مع إرث سابقه الثقيل في العراق وافغانستان بالقوة والحزم اللازمين للقضاء على القاعدة فى افغانستان والمقاومة في العراق وهو ما يستدعي منه مزيدا من الأموال الضخمة والتعداد البشري الإضافي وبصورة منطقية مزيدا من القتلى في صفوف قوات بلاده. والمؤكد أن الرئيس أوباما أراد أن يظهر في أول خرجة له بمظهر القوي حتى يبهر العالم وحتى منتقديه بعدم معرفته للشأن السياسي الدولي وتوجيه رسائل واضحة مرفقة بالصرامة اللازمة تجاه روسيا وايران وحتى كوريا الشمالية ولما لا الصين القوة الصاعدة العالمية الجديدة اقتصاديا وعسكريا. والمؤكد أن طموح الرئيس الجديد للمحافظة على أمريكا كقوة عالمية أولى ستصطدم بعقبات عدة أهمها درجة الإنفاق العسكري اليومي الذي تلتهمه الحرب في العراق وأفغانستان وحجم الديون العسكرية التي تركها له سابقه والمقدرة بأكثر من ألف مليار دولار. كما أن الأزمة الاقتصادية الحادة التي ضربت الاقتصاد الأمريكي في الصميم وجعلته يتهاوى في دائرة كساد غير مسبوقة رغم ضخ أكثر من 700 مليار دولار لإنقاذ مؤسسات مصرفية أمركية ضخمة من إفلاس محقق سيجعل ذلك عائقا لا يمكن إهماله في رسم السياسة الأمريكية للسنوات القادمة.