في أزقة القدس العتيقة، وتحت دقّات أجراس كنائسها ونداء مساجدها، وعبر جدران حي المغاربة الذي تنبعث منه روائح المطبخ الجزائري، وداخل الحوانيت والمقاهي والحقول، عاش طالب جزائري كل هذه الذكريات الجميلة المشتاقة الى قدس لم تدنّسها أقدام الغزاة، وإلى قدس بكت يوما تضحيات أختها الجزائر لتبكيها الجزائر بدورها اليوم بدل الدموع دما. استحضر الأستاذ سعدي بزيان في محاضرة ألقاها أول أمس بمدياتيك "بشير منتوري"، ذكريات عزيزة على قلبه عادت إلى مخيلته بكل تفاصيلها وهو يشاهد ما يجري للشعب الفلسطيني في غزة من مآس. الأستاذ بزيان أشار في محاضرته إلى أنه كان واحدا من الجزائريين الذين عاشوا في فلسطين قبل نكبة 1967 حيث شاءت الأقدار أن يدخل القدس رفقة أربعة من زملائه الجزائريين الذين كانوا يدرسون بدمشق ضمن بعثة جزائرية للطلبة، وهكذا التحق بزيان مع زملائه بثانوية "الإبراهيمية" بالقدس والذي كان يديرها آنذاك نهاد أبو غرمية وهو أحد أعيان القدس. بعد فترات الدراسة كان بزيان يفضل الصلاة في المسجد الأقصى خاصة في العصر ثم يتجول في ساحته المباركة وهكذا كان الحال لمدة سنة كاملة، وازدادت الروابط بالقدس يوما بعد آخر خاصة عندما احتك الطلبة الجزائريون وبزيان واحد منهم بالمقدسيين الذين كانت لهم مشاعر خاصة ومرهفة تجاه الجزائر والجزائريين خاصة في تلك الفترة التي كانت فيها الثورة التحريرية مشتعلة، فلقد قدم أهل القدس للطلبة الجزائريين الدعم المالي والمعنوي وتبرعوا لهم بالمسكن والملبس والطعام وفضلوهم على أبنائهم الى درجة أن الجزائريين لم يكونوا يسكنون مع زملائهم من الطلبة (نظام داخلي) بل كان يتم اسكانهم في مساكن الأساتذة. من الذكريات الخالدة في وجدان الأستاذ بزيان تلك الحادثة التي وقعت له في القدس، فبينما كان يتجوّل في أحد أزقتها رفقة زملائه الجزائريين ويتكلمون باللهجة الجزائرية هبّ نحوهم صاحب استديو تصوير وسألهم عن الجزائر بعدما كاد يطير فرحا لما علم أنهم من جزائر الشهداء والمجاهدين وقال "نحن في القدس نتبرك بكل ما هو جزائري" ثم أخذ لهم صورة وعلقها في محله ليتباهى بها أمام زبائنه وهو يقول "لقد استقبلنا الجزائر المقدسة في ديارنا المقدسة". ويذكر بزيان أنه كان يتردد في القدس على حي المغاربة وربطته علاقات مودة مع أهله الذين كان أغلبهم من الجزائر وكانوا يحافظون على هويتهم الجزائرية وبعضهم سمعهم يتحدثون بالقبائلية، فعلم أنهم جاؤوا من منطقة أزفون الساحلية وكانوا يحنون إليها ويسألون عنها. في تلك الأثناء لم تكن القدس محتلة بل كانت تحت إدارة المملكة الأردنية والتي كان بها مندوب الجزائر السيد عبد الرحمن بلع?ون (ممثل الثورة هناك)، صاحب السمعة الطيبة الذي كان يزور الطلبة الجزائريين ويدعوهم لبيته لتناول "الكسكسي". ذكريات أخرى رواها السيد بزيان كتلك التي عاشها في رام اللّه حيث كان يفضل شرب القهوة الشامية أو "الجزوة" كما تسمى عندنا في الجزائر، وغيرها من الذكريات الجميلة في نابلس مثلا، حيث استضافته عائلة مع زملائه لمدة أسبوع في بيتها موفرة لهم الراحة، وقد بلغ حد الاهتمام بالجزائريين درجة أن أصحاب الحافلات أو القائمين على النقل رفضوا أخذ الأجرة من هؤلاء الطلبة بمجرد أن علموا أنهم جزائريون وهذا على مدار العام. من المواقف التي لم ينسها المحاضر موقف مدير ثانوية "النجاح" (أصبحت فيما بعد جامعة النجاح وقد أسستها أسرة طو?ان المعروفة بنضالها الثقافي) الذي رفض تكاليف التسجيل والدراسة من مندوب الجزائر لما علم أن الأمر يتعلق بطلبة جزائريين تضامنا مع الثورة آنذاك. شهد الأستاذ سعدي بزيان الاحتفالات والمهرجانات الشعبية التي أقيمت بمناسبة استقلال الجزائر ومدى التأثر بها، وهو الأمر الذي ترجمته الجزائر دعما لفلسطين بعد استرجاع سيادتها.