وصل جورج ميتشل المبعوث الأمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط أمس إلى العاصمة المصرية في أول محطة إلى المنطقة تقوده إلى إسرائيل والضفة الغربية والأردن والعربية السعودية. وحتى وإن كانت أول زيارة للموفد الأمريكي تهدف إلى تحسس الأوضاع وجس نبض العواصم التي يزورها ومعرفة مستجدات مواقفها على ضوء ما حدث فإنه يدخلها وآثار أكبر مذبحة تقترفها إدارة الاحتلال الإسرائيلي مازالت بارزة للعيان بكل تداعياتها الكارثية على سكان قطاع غزة. ورغم ذلك فإن هذه الزيارة ستكون بمثابة "بارومتر" لميتشل ولكل الإدارة الأمريكيةالجديدة لمعرفة درجة حرارة عملية السلام وما إذا كانت قد قبرت بصفة نهائية أم أن هناك إمكانية بعث الروح فيها من جديد بعد أن شارفت على موت نهائي. وتعلق الإدارة الأمريكيةالجديدة وحتى بعض العواصم العربية آمالا كبيرة على مهمة ميتشل عله يتمكن من إيجاد الطريق الذي سيمكن المنطقة من الخروج من متاهة الصراع الذي فرضه وجود كيان محتل أراد بتواطؤ كل الإدارات الأمريكية التي انحازت جميعها إلى جانب إسرائيل على حساب الحق العربي أن يسلب الفلسطينيين والعرب من أدنى حقوقهم. وقبل الحديث عن أي خلفيات سياسية فإنه يمكن القول أن إقدام باراك أوباما على تعيين مبعوث عنه إلى المنطقة يبقى في حد ذاته خطوة لا يمكن التقليل من أهميتها على الأقل كونها أول مسعى عملي من إدارة أمريكية أكدت على نواياها "الحسنة" من أجل إنهاء هذا الصراع الذي عمّر لأكثر من ستة عقود. ولكن هل اختارت إدارة الرئيس الأمريكي التوقيت المناسب لإيفاد مبعوثها وخاصة وأن نفسية الجميع مازالت مصدومة بآثار العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة اللّهم إلا إذا كانت واشنطن تريد ضرب حديد عملية السلام وهو ساخن إلى حد الانصهار لإقناع الجميع أن الفترة أكثر من مواتية لإعادة بعث مفاوضات السلام والتي سبق للوزير الأول الإسرائيلي ارييل شارون إجهاضها بمجرد توليه مقاليد السلطة في إسرائيل. ويدرك جورج ميتشل نفسه أن مهمته ليست سهلة ولكنه قال عبارة تحمل الكثير من الدلالات السياسية ان "الأزمات يفتعلها أشخاص ويواصلها أشخاص ويحلها أشخاص". ولكن هل سيكون هو الشخص الذي سيجد تسوية لازمة افتعلتها بريطانيا وواصلتها الإدارات الأمريكية ورعتها بكل ثقلها العسكري والدبلوماسي طيلة ستة عقود أم أن مقولته ستفشل بمجرد اصطدامها بعقبات الوضع المتفجر في اعقد النزاعات في العالم المعاصر وتفشل مهمته كما فشلت كل المهمات التي سبقتها. وليس من محض الصدفة أن تتزامن أول محطة لميتشل مع أول انهيار لوقف إطلاق النار الأحادي الجانب في قطاع غزة والذي جاء ليغطي على زيارته ويلقي بظلاله عليها ولكن الحادثة يمكن القول أنها جاءت في وقتها لتذكره أن قطاع غزة خرج من حرب مدمرة وبما يجعله يتعاطى مع الملف بالحياد اللازم أن كان يريد فعلا أن ينجح في مهمته الشائكة بل والمحفوفة بالألغام. وأول لغم يتعين على ميتشل تفكيك صاعقه هو أن لا يتجاهل حركة حماس كطرف محوري في أية ترتيبات مستقبلية وان لا ينظر إليها كمنظمة إرهابية وهي التي ربحت انتخابات عامة ديمقراطية بل أنها حركة يجد غالبية الفلسطينيين أنفسهم في طروحاتها الفكرية وبالتالي فإنه إذا كان يريد أن يكون "حلال العقد" فلا يمكنه أبدا تجاهلها كطرف في الحل الشامل وعدم التركيز فقط على دول الاعتدال المؤيدة لفكرة التطبيع وإقامة علاقات سلام مع إسرائيل. أما إذا كان الموفد الأمريكي يريد التعامل باستعمال لغة الخيارين، واحد دبلوماسي والثاني عسكري من خلال تطبيق بنود اتفاق رايس-ليفني الأخير فإن تجارب التاريخ والدول أكدت فشل البدائل العسكرية في حل أي نزاع بل أن الخيار الدبلوماسي كثيرا ما كان مفتاح الحل لكل النزاعات بعد أن يكون بديل القوة قد استنفد كل أوراقه. ولو كان هذا الخيار المنتهج على الأقل منذ حرب جوان 1967 لتمكنت إسرائيل وبدعم أمريكي-أوروبي من تحقيق أهدافها منذ سنوات طويلة وفرضت منطقها بالقوة العسكرية. ولذلك فإن وعد الرئيس اوباما بإرساله لميتشل إلى المنطقة وقوله "إنني وفيت بوعدي بالاهتمام بهذا الصراع ولن انتظر نهاية عهدتي للبدء في ذلك" فإن ذلك لن يكفي لتسوية صراع بحجم صراع الشرق الأوسط. وحتى وإن كانت الرسالة واضحة باتجاه الرئيس جورج بوش الذي تربع على كرسي الرئاسة الأمريكية لعهدتين ولم يلتفت إلى الأوضاع في الشرق الأوسط إلا وهو يستعد للرحيل بتعهده بإقامة الدولة الفلسطينية والسذج من صدقوا قوله وتأكدوا بزيف وعوده فإن الرئيس اوباما مازال هو الآخر في مرحلة نظرية ولم يحن الوقت لاكتشاف حقيقة نظرته إلى النزاع. وأيضا لأن التفاؤل الذي طبع المواقف بعد تولي اوباما مهامه لا يجب أن يحجب عنا الحقيقة المرة التي كثيرا ما انتهت إليها الإدارات الأمريكية وهي استعمال ورقة السلام في المنطقة لخدمة مصالح آنية لم تخرج عادة عن المصالح الأمريكية الإسرائيلية المتشابكة. وقد أعطى الرئيس اوباما أثناء تعيين جورج ميتشل في مهمته الأسبوع الماضي بعض المؤشرات التي تصب في سياق ترجيح هذه الفرضية عندما أكد أنه سيضع أمن إسرائيل وحمايتها في أولى أولوياته على حساب أدنى الحقوق الفلسطينية. ولم يخف الرئيس الجديد صراحة دفاع إدارته عن إسرائيل وكأنها في حاجة إلى مثل هذه الحماية وخاصة إذا أخذنا بقناعة أن مفهوم الحماية يعني بالضرورة أن طرفا قويا يدافع عن طرف أقل قوة ضد قوى أخرى معادية وهي معادلة غير موجودة أصلا في حالة إسرائيل مع جيرانها العرب ومع الفلسطينيين تحديدا. كما أن خطأ الإدارات الأمريكية وكل الدول الغربية يكمن أساسا في إنكارهم لحقيقة أن الإسرائيليين يحتلون أرضا ليست أرضهم وان هناك مطالبين باستردادها ويصرون على عدم التخلي عن هذا الحق مهما بلغت درجة التضحية ومهما مرت السنوات. وسقط الرئيس اوباما في فخ تصريحاته عندما انتهج مقاربة مغلوطة منذ البداية عندما جدد التأكيد على أن ميتشل سيعمل من اجل إيجاد آليات تضمن أمن إسرائيل وأخرى لإيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين الذين هم في حاجة إليها"، وهو خطأ لا يغتفر لرئيس أمريكي اقتنع أن الفلسطينيين لا يريدون إلا ملء بطونهم وهم الذين صبروا على أبشع حصار طيلة عامين ولم يستكينوا ولم ينتظروا وصوله لإغاثتهم. وكان يكفيه مشاهدة فظاعة ما حدث في قطاع غزة وتحمل سكانه مآسي القتل وتجارب الأسلحة المحظورة ليتاكد أن ما عانوه ليس من أجل بطونهم ولكن من أجل أرضهم المسلوبة وهو الأمر الذي يتعين على باراك اوباما أن يعيه جيدا إن كان فعلا لا يريد الوقوع في أخطاء سابقيه. ولكن هل له الحرية الكاملة لتنفيذ عكس ما تمليه عليه اللوبيات ودوائر الضغط الصانعة للقرار الأمريكي؟