تعجّب كثيرون من حضور جمهور غفير لتظاهرة البيرين الشعرية. معذورون؛ كثيرون منهم كانوا يعتقدون أن زمن الشعر قد ولى. قيل ذلك في الصحف، وفي قنوات التلفزيون. كانوا يعتقدون أن الزمن زمن التكنولوجيا، وأن زمن الشعر مضى نهائيا؛ كأنهم أصبحوا ينتجون السيارات والهواتف والطائرات، وتخلّوا عن الشعر مع القشابية والعمامة والخيمة. كأن الشعر رديف البداوة والريف والتخلف وبقية المفردات الفقاقيرية. منهم من كان يعتقد صادقا، أن الثقافة كلها تعني التخلي عن التقاليد، ومنها الشعر. الشعر في العالم يكتسب مساحات جديدة، لأنه تخلّص من بعض الوظائف التي كانت تثقله. من يحضر مهرجانات العالم الشعرية يتعلم الكثير. تَقدم الشعر في العالم كله، لكن أمة الشعر اجتاحتها خرافات غريبة، لذلك انصرفت وسائل الإعلام عن تغطية التظاهرات الشعرية. وانصرف عنه الأكاديميون، الذين أصبحوا هم أنفسهم، رهينة ما تفرضه وسائل الإعلام. في أثناء ذلك كانت فئة قليلة مؤمنة بأن الشعر يصنع زمنه، وأن زمنه هو زمن الورد، وأن وردة الشعر لا تذبل. من هؤلاء الشاعر سليم دراجي شاعر الورد، يحييك دائما بهذه التحية: تحيةً لك والورد... بدأ كتابة الشعر في وقت مبكر، ونشر كثيرا من القصائد في الصحف الوطنية والعربية. انتسب لجمعيات ونواد كثيرة بحثا عن فضاء يناسب أحلامه. كثيرون كانوا يبحثون عن فضاء ليطلقوا أصواتهم الشخصية. هو كان يبحث عن فضاء لصوت الشعر. كثيرون كانوا يخدمون أنفسهم. قليلون يخدمون الآخرين. كثيرون يخدمون صورتهم من خلال الآخرين. كان سليم يخدم صورة الشعر. من المقهى والنادي انتقل إلى المكتبة بعين وسارة. جعل من المكتبة فضاء للشعر، ونافذة لتعدد الوجوه والأصوات. كانت أحلامه تكبر، والفضاءات تضيق من حوله. في 2018 انفتح أمامه فضاء جديد: بيت الشعر الجزائري بالجلفة. كانت تجربة متميزة. الجلفة قارة شعرية بامتياز. إذا أخذنا استعارة الوردة، فالجلفة بستان فيه ألوان عديدة. كان الشاعر المتميز محمد عبو هو المبادر بتأسيس بيت الشعر الجزائري، لكنه بأريحية وسخاء كبيرين تخلى عن رئاسة المكتب للشاعر سليم الدراجي. هذا الأخير لم يجد وسيلة لجمع كل تلك الأسماء العالية في سماء الجلفة إلا بالتنقل من بلدية إلى أخرى، لأخذ آراء زملائه في البرنامج أو في طريقة العمل. كان يتنقل من بلدية إلى أخرى، وينشر صور أصدقائه وهم يتناولون الشاي، أو يتداولون في شؤون الورد، أقصد شؤون الشعر. تلك كانت الطريقة التي اعتمدها المكتب الوطني لبيت الشعر الجزائري لاحقا. الانتقال عبر ربوع الوطن لصنع زمن الورد، زمن الشعر. أخذ البرنامج الذي اتفق عليه مع رفاقه تسمية "شموع". كانت، فعلا، إضاءة، بل إشراقا. استضاف العديد من المبدعين الشعراء والروائيين والمثقفين من كل المجالات. حضرنا عدة أنشطة. كانت متميزة جدا، يحضرها جمهور ذواق. الجلفة وحدها فرشت البساط الأحمر للشعراء، واستضافت الفنانين والإعلاميين. كان تعاون المؤسسات الثقافية مشهودا، لكن في فترة ما فتر حماس بعض البيروقراطيين الذين لم يكونوا ينظرون بعين الارتياح لكثرة الأنشطة، فماذا كان موقف الشاعر سليم ورفاقه؟ بعين الخبير إلى الساحة الثقافية والشعرية، اتجه إلى البلديات النائية، انتقل إلى بلدية الزعفران، ونظم نشاطا شعريا شعبيا بحضور جمهور غفير. لم تكن الأسماء "الكبيرة" مستعدة للمغامرة آنذاك، لكن نجاح التظاهرة جعل رؤساء بلديات أخرى يطلبون تنظيم تظاهرات مماثلة. رؤساء بعض البلديات اليوم، هم من الفئة المثقفة، أو، على الأقل، المتعلمة، تدرك قيمة الفعل الثقافي وتثمّنه. هكذا استطاع اجتياز الحواجز التي وضعها بعض البيروقراطيين، الانتقال من مركز المدينة إلى الأطراف؛ إنها فلسفة التنقل في أرجاء البستان الذي يشع من كل جهاته. الشعر لا يقبل الوصاية، ولا يحتاج إلى قاعة مكيفة لكي يستقيم. الشعر معفر بغبار الحياة، ونبض الجهات كلها. في أحد لقاءات بيت الشعر الجزائري، استمع الحاضرون إلى سليم يفصل تجربته، وإلى تجارب أصدقاء آخرين في ولايات أخرى سنعود إليها لاحقا. هناك جهود مضنية يقوم بها شعراء بصدق وبحرقة وبذكاء أيضا، لكي يستمر زمن الورد، زمن الشعر، زمن يصنعه مع ثلة من رفاقه من أمثال لخنش عبد الرحمن، وجمال رقاب، ومفتاح خافج، ومريم كريدة التي تبذل الكثير في سبيل إنجاح النشاطات، ومع مجموعة من مسؤولي المؤسسات، الذين يحترمون الثقافة، من أمثال مسؤولي المكتبة الرئيسة والمكتبات العمومية. هؤلاء أدركوا قيمة النشاط الثقافي لتشجيع القراءة، والاحتفاء بالكتاب. بعد نجاح النشاط في البلدية الأولى انتقل إلى بلديات أخرى، وعادت الأنشطة إلى وتيرتها. بلغت "شموع" الآن دورتها 18. جرت الدورة الأخيرة في بلدية الإدريسية جنوب الولاية. أما بلدية الزعفران فعادت إلى تنظيم الأنشطة من جديد. نظمت مسابقة منذ شهور، والتقيت بالفائز فيها في مدينة البيّض، مطلع جويلية المنصرم. جرى مثل ذلك في بلديات أخرى بالأغواط، واولاد جلال، وتيزي وزو وغيرها. لم يعد الشعر ينتمي إلى زمن مضى، هذا لم يأت صدفة. أخيرا انتبهت الأسماء الكبيرة، وانتبه الإعلام إلى أن للشعر جمهورا، وأن بالإمكان أن تنجح تظاهرة شعرية. ليس صدفة أن يكون ذلك على أرض الجلفة، وفي زمن البيرين، زمن الورد، زمن الشعر. شاعر الورد.. تحية لك والورد.