ألقى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة يوم الأربعاء بمدينة سرت الليبية خطابا خلال القمة ال13 للاتحاد الإفريقي حول "الاستثمار في الفلاحة تحقيقا للنمو الاقتصادي والأمن الغذائي". فيما يلي نصه الكامل: "فخامة الرئيس أصحاب الفخامة والدولة والمعالي حضرات السيدات والسادة إن إدراج ندوتنا موضوع تطور الفلاحة في صلب أعمال هذه القمة يكتسي دلالة خاصة بالنظر لما لهذا القطاع من أهمية قصوى في تحقيق رفاهية الشعوب الإفريقية وتطوير اقتصاديات قارتنا. هذا وله مغزى في غاية من العمق بالنظر للظرف العالمي الذي يطرح مجددا وبحدة منقطعة النظير قضية أمن قارتنا الغذائي. إن الاتحاد الإفريقي إذ يصب مرة أخرى اهتمامه على الإشكالية الفلاحية إنما يقدم الشاهد والدليل على عزمه على أن يبلغ بالاستراتيجية التي اتخذها لنفسه مبلغها لترقية قطاع فلاحي عالي الأداء يكون المطية الأساسية لنمو الاقتصاديات الإفريقية والوسيلة اللازمة لوقاية قارتنا من صدمات وارتدادات أزمة غذائية تجنح إلى تكرار نفسها. وإن الصلة بالتخصيص والتلازم من حيث الموضوع الذي وفقت قمتنا أيما توفيق في إقامته بين الفلاحة والأمن الغذائي والتنمية الاقتصادية تعكس هذه النظرة وهذه العزيمة التي تحدونا جميعا. من هذا المنظور كان لقمة الاتحاد الإفريقي المنعقدة بمابوتو سنة 2003 الفضل في صياغة استراتيجية حقيقية موجهة لرفع هذه التحديات ويتعين علينا مواصلتها بكل حزم من خلال البرنامج المفصل لتطوير الفلاحة الإفريقية المعروف باسمه المختصرCAADP. إن الإنجازات التي تم تحقيقها بعد في إطار تطبيق هذا البرنامج الذي أصبح جانبا من الجوانب الرمزية للشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا (نيباد) إنجازات ذات بال تعزز قناعة إفريقيا بما حددته من الاختيارات. لكنها تبقى دون مستوى النتائج المرجوة بفعل نقص في الوسائل اللازمة وبفعل عوامل خارجة عن نطاق سيطرة قارتنا. إنني أقصد بها الاستثمار الخارجي الذي من المفروض أن يرافق الجهد الذي تبذله البلدان الإفريقية منفردة ومجتمعة خاصة من خلال المجموعات الاقتصادية الجهوية من أجل إنعاش قطاع الفلاحة. وأريد أن أخص بالذكر كذلك حال التجارة العالمية للمنتوجات الفلاحية الذي لم يتسن له بعد إفادة الإنتاج والنشاط الفلاحي الإفريقي من قاعدة الإنصاف لا غير. وبهذا الشأن تشكل العوائق التي ما زالت تقف حائلا دون بلوغ دورة الدوحة غايتها دليلا بالغا على القيد الخارجي الذي يرهق طموحنا المشترك إلى ترقية تطور حقيقي للفلاحة في قارتنا. وبعد هذا أريد أن أتطرق أخيرا لتبعات التغيرات المناخية التي تزيد في إفريقيا أكثر من غيرها من هشاشة هذا القطاع الحيوي بالنسبة للتنمية الاقتصادية ولتحسين مستوى التنمية البشرية. إن ما نستشفه من خلال عناصر التقويم القليلة هذه يتمثل في الواقع في طبيعة هشاشة إفريقيا الخاصة أمام ظواهر يعترف الكل بأن لا مسؤولية لها في حدوثها. والمعاينة هذه التي تنسحب كذلك على التبعات المنجرة عن الأزمة الغذائية العالمية التي يأخذ طابعها الدوري بعدا هيكليا يؤكدها وقع الأزمة المالية والاقتصادية الدولية على إفريقيا.
فخامة الرئيس إن الرهانات التي حددناها سويا بمناسبة قمتنا المنعقدة بمابوتو في جوهرها هي هي والنهج الذي حددناه لتسويتها ما يزال ساريا لكن حدة هذه الرهانات قد تفاقمت من حيث أن الآثار السلبية للتغيرات المناخية شأنها في ذلك شأن تبعات الأزمة المالية الاقتصادية الدولية تساهم في تقويض المساعي التي تبذلها إفريقيا في سبيل تنميتها الاقتصادية والاجتماعية. وإن التوقعات التي تضع نسبة النمو الاقتصادي في إفريقيا سنة 2009 في مستوى أقل من 2 ? لكافية لتنم عن التوجهات السلبية التي تقحم فيها هذه الظواهر تطور قارتنا. فالتوجهات هذه فضلا عن إهدارها للتضحيات التي تتجشمها البلدان الإفريقية لرفع تحدي التنمية وبوجه أخص تنمية قطاع الفلاحة الاستراتيجية ستباعد ويا للأسف أكثر بينها وبين تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية في القارة. والسبب أنه من بين المائة وخمسين مليون شخص الذين قد يضافون إلى عداد الفقراء في العالم سنة 2009 بفعل مخلفات الأزمة المالية والاقتصادية الدولية توشك قارتنا على أن تكون مرة أخرى الأشد تضررا من الظاهرة. إن إفريقيا التي رفضت على الدوام أن تكون الوجهة المقصودة لكل اختلالات النظام العالمي لا يمكنها بداهة أن تتقبل مثل هذه التطورات المخيفة حقا. وانطلاقا من هذا المقتضى علينا أن نؤكد مرة أخرى وجاهة المقاربة التي طرحناها بعد للتمكن من إنزال قطاع الفلاحة منزلته التي هو جدير بها في سير اقتصادياتنا وإعطائه الدور الذي يؤول له كاملا في تحسين ظروف معيشة شعوبنا. وانطلاقا من العبر التي يمكن أن نستخلصها من المشاكل الهيكلية والمتعددة الأبعاد التي يواجهها القطاع الفلاحي في إفريقيا ومن الأزمة الغذائية التي تمس أكثر فأكثر في العمق وبشكل متفاقم العديد من البلدان الإفريقية يتعين علينا أكثر من أي وقت مضى إعطاء كامل الأولوية للتكفل الشامل بالإشكالية الفلاحية وبهدف الأمن الغذائي الدائم لقارتنا. إننا نعتقد من وجهة النظر هذه أن البرنامج المفصل لتطوير الفلاحة الإفريقية (CAADP) يمثل إطارا مواتيا وأداة مثلى في الآن نفسه للسعي بفعالية في هذا الاتجاه. ومهما يكن من أمر فإن خيار ثورة خضراء حقة يفرض نفسه أكثر من أي وقت مضى في إفريقيا بصفته السبيل الذي ينبغي أن نطرقه حتما لاجتثاث قارتنا من آفة التخلف وتوابعه المتمثلة في الفقر والجوع وسوء التغذية. فالأمر لا يتعلق بكرامة الإنسان الإفريقي وبحقه في العيش الكريم فحسب بل يتعلق كذلك بمسألتي الأمن الوطني للدول وبمصير قارتنا. ومثلما يدل على ذلك موضوع اجتماعنا هذا فإن مسألة ترقية الاستثمار في الفلاحة لمضاعفة إنتاجها وإنتاجيتها ينبغي أن تبقى مسجلة كأولوية في برامجنا التنموية الوطنية وفي مساعي مجموعتنا الاقتصادية الجهوية. ولئن كان بإمكان الواقع الموضوعي أن يحول دون تحقيق هدف تخصيص10 ? من الموازنات الوطنية لتكريس هذه الغاية الحيوية فإنه يتعين علينا مع ذلك بذل جهود جديدة للمضي قدما في هذا الاتجاه بما في ذلك عن طريق تحسين الحوافز المقدمة للمنتجين وتعزيز مؤسسات الدعم والإسناد. إنه ينبغي إيلاء عناية خاصة للتنمية الريفية الفلاحية وهذا بالنظر إلى الأهمية التي تمثلها الفضاءات الريفية ضمن دائرة الاقتصاد الإفريقي وفي حياة معظم سكان إفريقيا. ينبغي بهذا الشأن استجماع الظروف ليس لتحسين ظروف الإنتاج فحسب بل كذلك لتحسين ظروف معيشة السكان. وفي كل الأحوال فإن الأزمة الغذائية العالمية في 2007 - 2008 ذكرت الجميع بضرورة إيلاء عناية مجددة للزراعة المعيشية بصفتها وسيلة أساسية لتحقيق الأمن الغذائي وتخصيص مجهود استثماري أكبر للفلاحة خاصة في مجالات المنشآت القاعدية في الري والنقل وإننا نرى في المطالبة هذه بمزيد العناية بالزراعة المعيشية ومزيد الاستثمار لصالح الفلاحة أداة فعالة: 1 - للتصدي لنقص إنتاج الزراعة وإنتاجيتها 2 - لوقاية فئات واسعة من ساكنة إفريقيا من مغبة ارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية وتذبذبها ومن شتى ممارسات المضاربة التي قد تصيب السوق العالمية 3 - لتعزيز التلاحم الاجتماعي خاصة بفضل تمكين المرأة والشباب ودعم قدرات المزارع في الريف. إن طرح مشكلة الأمن الغذائي في إفريقيا إنما يعني إبراز التأخر الفادح الذي آلت إليه قارتنا في مجال الهياكل القاعدية للنقل على المستويات الوطنية والجهوية وما بين الجهات. والظاهرة هذه تؤكد مرة أخرى صلاحية ووجاهة مشروع السوق الفلاحية القارية الإفريقية التي ينبغي لنا مواصلة السعي في سبيلها والتي ستعزز حتما قدرة إفريقيا على مقاومة الأزمات الوافدة وعلى التعاطي مع معادلة تنميتها بفعالية أكبر.
فخامة الرئيس إن المداولات التي تجمعنا اليوم حرية بأن تكون مناسبة لتبادل التجارب الوطنية لنحاول أن نستخلص منها العبر الكفيلة بجعلنا نستفيد من بعضنا البعض. وبودي بهذه المناسبة أن أعرض عليكم بعض التجارب التي خاضتها بلادي خلال السنوات الأخيرة في سبيل إنعاش قطاع الفلاحة واستجماع شروط الأمن الغذائي الدائم. ففيما يخص أولا إلزامية تحسين الأمن الغذائي أطلقت الجزائر سياسة التجديد الفلاحي والريفي المتمثلة على وجه الخصوص في برنامج تنموي واسع للزراعات الاستراتيجية. في هذا الإطار يتوخى تعزيز وتوسيع القدرة الإنتاجية الفلاحية من بين ما يتوخاه في أفق سنة 2014 إنجاز البرامج التالية: تكثيف إنتاج الحبوب بهدف إنتاج 50,2 مليون قنطار في السنة تطوير إنتاج الحليب الطازج لبلوغ مردود سنوي قدره ثلاثة ملايير ومائتي مليون لتر امتصاص أرض السبات (الأرض المستريحة) بما يصل إلى 1 مليون هكتار اقتصاد الماء من أجل إعادة تصويب لصالح الزراعات الاستراتيجية وتعميم اللجوء بقوة إلى الأنظمة القليلة الطلب للمياه تطوير البذور والفسائل الموجهة لإعادة تكوين مخزوننا من البذور والتصديق على الأنواع المتكيفة مع الظروف الزراعية والجوية وطبيعة التربة. وفي إطار سياسة التجديد الفلاحي والريفي يتم إيلاء عناية خاصة لتطوير الزراعة الصناعية من حيث هي عامل من العوامل التي تجر النمو مجددا في شعب الحبوب ومشتقات الحليب وصناعة المعلبات وتطوير صناعة المدخلات الفلاحية. وفيما يخص قدرات المزارعين اتخذت الدولة إجراءات بما فيها اللجوء إلى الحل المتمثل في مسح ديونهم وهذا لتمكينهم من الإدلاء بدلوهم بفعالية أكبر في المجهود الوطني المتوخى بعث الحياة مجددا في القطاع الفلاحي. كما اتخذت السلطات العمومية إجراءات تشجيعية تتوخى تعزيز دور المرأة والشباب في هذه الاستراتيجية الوطنية. أما فيما يخص التكفل بالمعادلة المناخية فإن الجزائر منكبة على وجه الخصوص على التصدي لتحدي التصحر الذي يهدد سائر المجال السهبي الوطني الشاسع أي ما يقدر ب36 مليون هكتار إن احتسبنا 20 مليون هكتار من المراعي الذي يعيش أكثر من 7 ملايين شخص في نطاقه. في هذا الإطار أطلقت بلادي سنة 2003 خطة العمل الوطنية لمكافحة التصحر الموجهة لتطوير الإجراءات الوقائية للأراضي وتعزيز القدرات المناخية والجوية والمائية الوطنية ووسائل إطلاق إنذارات مبكرة بالجفاف. ويرافق هذه الخطة المخطط الوطني لإعادة التشجير بصفته جانبا هاما من سياسة حماية الموارد ومن ثمة بصفته عاملا مساعدا على تطبيق بروتوكول كيوتو حول التغيرات المناخية.
فخامة الرئيس إن الكل فردا فردا يدرك ويعي المشكل الذي يمثله نقص الإمكانيات بالنسبة لما يحدونا من طموح إلى إحلال قطاع فلاحي عالي الأداء يتيح لإفريقيا المواصلة الفعلية لمشروع تنميتها الداخلية والاندراج المنسجم ضمن العولمة. كما أننا ندرك كلنا فردا فردا أن مسؤولية تجسيد هذا الطموح منوطة في المقام الأول بالأفارقة أنفسهم. مع ذلك لا يمكن للمعاينة المزدوجة هذه وللواقع المزدوج هذا أن يعفيا شركاء إفريقيا من إسداء دعمهم للجهود التي تبذلها قارتنا لتحقيق تنميتها المستدامة وتأمين وسائل تحسين ظروف معيشة الشعوب الإفريقية. وإنه ينبغي أكثر من أي وقت مضى الوفاء بالوعود التي تعهد بها الشركاء هؤلاء ذاتهم بمرافقة إفريقيا في هذا السبيل الذي يكمن فيه خلاص القارة وسائر المجموعة الدولية. إن الأزمات المالية والاقتصادية والغذائية التي يعيشها العالم والتي تأتي لتذكر بهشاشة وضع إفريقيا التي لا تطاق لا ينبغي أن تتخذ ذريعة لإعادة النظر في مثل هذه التعهدات. بل ينبغي أن تشكل المناسبة المواتية لتقدير مدى إلزامية التخلص من العوامل والمسببات الخارجية التي ترهن مصير قارتنا."