أن تتنكر لأصلك لتكسب قبول وحب الناس يعني أنّك قتلت نفسك بنفسك، فلا أنت حافظت على شخصيتك ولا من سعيت إليهم نسوا من تكون والنتيجة أنّك خاسر أكيد، فهل ترضى أن تكون كذلك؟. "العوذة" هو عنوان المسرحية الجديدة لمحمد العيد قابوش والتعاونية الثقافية فانيسا من عنابة، عن نص "المرآة" لأرتور ميلر، والتي عرضت أوّل أمس بالمسرح الوطني الجزائري، وتحكي قصة الزوج مختار ومختارية اللذين يعيشان في مرسيليا، الرجل يعمل في شركة أمريكية معروفة للعقار والمرأة قابعة في البيت رغم نيلها لشهادة عليا ولديهما ابن اسمه رامي ويدعوه والده "رمساس" ويعمل في البحرية الفرنسية. وتبدأ أطوار المسرحية حين يذهب مختار إلى موسى الطبيب ليسأله عن حال زوجته المشلولة ويلتقي بزوجة الطبيب صوفيا التي لا تنفك تضحك على كل شيء وحتى من مختار رمضان الذي يأمر الجميع بمناداته "مكتار" لأنّه فرنسي ويشتغل في شركة أمريكية كبيرة، وليست له أدنى علاقة ب"العرب" ولا ب"الإسلام"، ربّما ما عدا زواجه بامرأة متمسكة بعروبيتها وإسلامها ومتألمّة جدا لما تفعله أمريكا وإسرائيل بالعرب إلى درجة إصابتها بالشلل. هل شلّت مختارية الملقبة ب"العوذة"، لأنّها لم تحتمل ما يحدث لأبناء جلدتها؟ هل تحوّلت إلى معوّقة لأنّها ترفض أن يهان العرب والمسلمون ويطلق عليهم تسميات مشينة وفي مقدمتها "الإرهابيون"؟، ويجيب مختار "أبدا نحن لسنا عربا، نحن لسنا بمسلمين، أنا أشتغل في شركة عالمية كبيرة، أنا فرنسي، "فهل هو حقا كذلك؟. مختار يرغب في أن تشفى زوجته وإن أزعجه كثيرا ارتداؤها الحجاب، فلا يتوانى في الذهاب إلى الطبيب المختص موسى وإن كان لا يرضيه أن يرى عربيا لا يتنكّر لأصله ومتزوّج من فرنسية تقبله كما هو، ويعيشان قصة حب تنسجها خيوط التفاهم الكبير. مختار ينزعج من صوفيا ومن ضحكاتها الرناّنة ويطلب منها أن تناديه بمكتار بدلا من مختار، وينزعج أيضا من موسى الذي يطرح عليه أسئلة خاصة بحجة أن أصل شلل مختارية نفسي محض وينزعج كذلك من زوجته وهو لا يفهم اهتمامها الكبير بالحروب التي تحدث بعيدا عنهم وتمسّ أناسا لا علاقة لها بهم، ولكن كيف ترضى مختارية عن مختار وهو يشتغل في شركة أمريكية تهتمّ بالرهان والعقار؟، وكيف لها أن تتفاهم مع زوجها وهو الذي كلّف من شركته بطرد ساكنين من عمارة بدون رحمة، خاصة وأنّهم من أصول عربية وإفريقية؟، مختار يفتخر بكونه يعمل المستحيل ليتنكر لأصله، وتفتخر مختارية لأنّها تعمل جاهدة لتتمسّك بأصولها، فكيف لهما أن ينعما بالعيش الرغد وقد سلكا طريقين نقيضين لا يمكن أن يلتقيا؟. هل حقا مختار ومختارية مختلفان إلى هذه الدرجة؟، ربّما نعم وربما لا، بحيث نحسّ أحيانا أنّ مختار يميل إلى مختارية ويريد شفاءها ولكن من الصعب أن تغفر له، ولكن لماذا لم يعد مختار إلى بيته منذ يومين؟ أتراه ذهب إلى مكان ما. في الحقيقة من العادة أن يعود إلى المنزل في أطراف الليل ويتوقّف السؤال وتأتي الإجابة "مختار مات"، متى مات وكيف مات؟، ويعود ابنهما رامي وتمشي مختارية من جديد علّها تجد الإجابة. جاءت المسرحية في قالب فكاهي مرح، مليئة بالمعاني والدروس التي استخلصها الجمهور الذي كان مع كلّ الأسف شبه غائب في القاعة، كما أنها علاوة على الرموز التي جاء بها هذا العمل الذي اقتبسه المسرحي محمد العيد قابوش ومثّل فيه كلّ من ياسين بن يعقوب، خليل قابوش، مريم عطوي، صفاء حربي، عواطف كريكو ومحمد أمين باشا. وحملت المسرحية تساؤلات عديدة أجابت عن بعضها وتركت بعضها الآخر للجمهور حتى يجد إجاباته بنفسه، ومن بينها "هل يمكن حقا أن يتنكّر الإنسان لأصله؟"، "أليس الذي يتجاهل من حيث أتى بغية إرضاء الآخرين يكون قد نسى نفسه؟"، "أليس من يحاول تقليد الآخرين من دون التمسّك بخصوصياته يضيع حتما، وإن أراد العودة إلى أصله لا يستطيع كذاك الغراب الذي أراد تقليد مشية طائر جميل فلا عرف كيف يقلّده ولا استطاع أن يعود إلى مشيته القديمة؟. مختار عمل المستحيل حتى ينسى الجميع أنّه عربي، وافتخر بأنّه يشتغل في شركة أمريكية حتى ولو تسبّبت هذه الشركة في تشريد الكثيرين من أبناء عمومته، وإن ارتدى لباس الذلّ ونكران الأصل والذات، ربما نسي مختار أنّه عربي ولكن مدير الشركة لم ينس ذلك وهاهو يطرده بعد أن شكّ في أن يكون قد سرّب معلومات لغريم له من أصول عربية من أجل صفقة، ويصاب مختار بالصاعقة وينطقها أخيرا "هل لأنّني عربي؟". ويموت مختار ولكنه في الحقيقة كان ميّتا منذ زمن بعيد، منذ أن ناقض واقعا لا يمكن تغييره، ألا وهو أصله وفصله، رغم أنّه في آخر الأمر غيّر قليلا من طباعه وفي مقدّمتها لباسه الذي كان أسودا من رأسه إلى أخمص قدميه ليتغيّر إلى رمادي تعبيرا عن وجود أمل صغير في إمكانية تغيير الأشخاص وإن كان بدرجة قليلة ولكن في الأخير تقتل شخصية مختار برهانا على مدى خطورة نكران الأصل. مختارية التي ملأت رأسها بأخبار العالم الفاجعة إلى درجة الشلل، تأخذنا هي الأخرى إلى تساؤلات أيضا عن كيفية تعاملنا مع ما يحدث في العالم أي في هذه القرية الصغيرة، هل نتجاهله لأنّنا تعوّدنا على أخبار الدمار والموت؟ أم نرفض الواقع ولا نطلع على ما يحدث يوميا؟ أم نترصّد الأخبار ونموت ببطء لما أصبح عليه هذا العالم؟. هل يمكن حقا أن تشلّ امرأة عربية تعيش في فرنسا لأنّها لم تتعوّد على تحمّل ما يحدث في العراق وغزة ومناطق أخرى، بحكم أنّ ما يحدث في الذهن يسيطر على كلّ الجسد؟ أم أنّ هذا الأمر فيه مبالغة كبيرة ويدخل في إطار المجاز؟..لماذا اتّخذ الزوجان طريقين متطرّفين، الأوّل نكر أصله والثاني أصيب بالشلل؟، هل عندما يفر الإنسان من واقع لا يريد تقبّله لا يستطيع أن يتوقّف وعندما يتوقّف يجد نفسه على حافة الطريق؟. وماذا عن موسى الطبيب الذي تقبّل أصله العربي رغم أنّه مقيم بفرنسا ومتزوّج من فرنسية؟، هل يمكن أن يصل الإنسان إلى تحقيق التوازن بين أصله والواقع الذي تربى ويعيش فيه؟ كيف يمكن أن يشكّل التنوّع والاختلاف ثراء وليس محل خوف ورفض؟. مختارية المقعدة في كرسي متحرّك، هل هي في سجن لأنّها مقعدة أم أنّ سجنها داخلي محض، سؤال آخر في سياق آخر "هل أمريكا هي العدوّ الحقيقي لكلّ العرب والمسلمين أم أنّ العدوّ بالدرجة الأولى هم العرب أنفسهم حين يتنكّرون لأصلهم؟ أ ليسوا هم الذين قتلوا أنفسهم بأنفسهم قبل أن تأتي أمريكا وتجد الساحة شاغرة؟". أن تخرج من مسرحية وأنت مليء بتساؤلات فهذا هو نجاح العمل، حتى أداء الممثلين كان في المستوى رغم ضعف الصوت الذي سبّب إزعاجا لبعض الحضور بحكم أنّهم لم يستمعوا إلى كلّ أطوار المسرحية، وعلى هامش العمل تحدّثت ممثلات المسرحية ل"المساء"عن سعادتهن لأداء عمل بنصّ محكم وبموضوع مهم، مؤكّدات على ضرورة أن لا يتنكّر الإنسان لأصله وإلاّ عاش حياة مليئة بالنكد والتعاسة.