أبو القاسم الشابي الشاعر الشفاف، القوي قوة العواصف، الرقيق رقة النسيم والعطور، الشاعر الذي حلق عاليا رغم تلبد السماء بالأنواء والعواصف والأمطار، رغم الظالم المستبد المتعطش للدماء المعادي للحياة، الشابي الشاعر الذي لم ينظر إلا للقمم تاركا الحفر للضعفاء الذين يرضون الذل ويخفضون جناح الهون للأعداء، تمر الذكرى المئوية لميلاده والسبعينية لوفاته، فهل مازال هذا الفارس السماوي يحلق في فضاء الشعر أم تعب فنول للراحة والسكون؟ لم يكن أبو القاسم الشابي غريبا عن الجزائر لأن العدو واحد والشعب والوطن واحد، في بعض الروايات إن صحت، فإن قصيدته" إرادة الحياة" استلهم وحيها من الجزائر، وأن هذه القصيدة ولدت بالشرق الجزائري في إحدى جولات الشابي الاستشفائية. قصيدة إرادة الحياة، ربما تكون مأخوذة من تلك الإرادة التي استلهمها الشابي من الجزائر في ثلاثينيات القرن الماضي، أو هي الروح التي أراد بثها في الشعوب لينفخ فيها روح الثورة من أجل السيادة والاستقلال. الشابي شاعر الإنسان والحرية والحب الوجداني العفيف العنيف، شاعر الطبيعة المتوهجة المتألقة الجميلة، شاعر الوطنية الصادقة المؤمنة بالحياة. الشابي الشاعر الذي تمنى لو كان حطابا حتى يهوى على الجذوع الميتة بفأسه ويأتي على كل ما هو جامد راكد ليزيحه ويزيله من أجل أن تتنفس الحياة وتدور دورتها الطبيعية وتنفض ما علق بها من رواسب رسبت في جوفها وأعاقتها عن الحركة والسيلان عبر مرور السنين. ولد الشاعر أبو القاسم الشابي بتوزر جنوب شرق تونس في شهر فبراير سنة 1909وانتقل إلى رحمة الله وهو ما يزال شابا في 19 أكتوبر سنة 1934، ترك الشابي الكثير من القصائد الوطنية والعاطفية والفكرية الفلسفية التي سار بموجبها في طريق شعراء المهجر رغم أنه لم يهاجر لكن جمعته بهم مظلة الرومانسية فجعلت منهم عصافير الحياة المغردة على شجرة الحرية والحب والطبيعة. أبو القاسم الشابي نسيج منفرد، وعزف عربي لم تعكره اللغات، ولم تختلط عليه الأفكار فكان يستمد جملته الشعرية منه، من حياته من تجربته الخاصة ومن طبيعته ومن بلاده وعانة شعبه وأمته، لم يقتبس من التيارات الفكرية أو يقترض من فلسفاتها جلس وحده في هيكل وادي الموت يراقب عن كثب أين تنزلق الحياة ويغور ماؤها، أعجب ببعض الشعراء كجبران وتسبيحاته وسبحاته إلا أنه لم يكن مقلدا، بل كان مزاحما منافسا مقتحما فضاءات الشعر برومانسية شابية في صلواتها ومحرابها وحبها الذي ابتنته لتتعبد فيه بطريقتها ولغتها الخاصة بها. الشابي الفتى الغض الذي حمل هموم شعبه وأمته وطار بها إلى العلياء نافخا فيها روح الحياة. تمر مائة سنة على ميلاد الشابي، لكن الفتى الشاعر ما يزال نسرا يجوب أعباب السماء ويسكن قمم الشعر. الشابي أحببناه في الجزائر حين وجدنا الجزائر في شعره وصلواته، في عداوته واستعدائه للظالم المستبد عدو الحياة، لم يفارقنا الشابي منذ أن عرفناه أطفالا في "الصباح الجميل وأغاني الرعاة ، في "إرادة الحياة" و "صلوات في هيكل الحب" و "الظالم المستبد"، بل عرفناه في ديوانه "أغاني الحياة"، أحببنا الشابي وعاش في وجداننا وفي مدارسنا وواصل معنا سيرنا التعليمي إلى الثانوي وما زال في قصيدته "إرادة الحياة" يعيش فينا. كنت ممن أحب الشابي وشغف بشعره، وكانت أول محاولة شعرية تنشر لي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي قصيدة مهداة إليه تحت عنوان "إلى روح الشابي"نشرت بجريدة الشعب" الشعب الأسبوعي والتي مطلعها: (أبا القاسم قد أجاب القدر وأعطى الحياة رحيق العمر فلا الليل سد أماني الحياة ولا القيد شد أماني البشر وما الحب إلا وسام الخلود وما الطيب إلا وسام الزهر يعانق شوق الحياة شهيد غريق الدماء عليق الظفر أنظر تجده شهيد الجزائر وصوت الجزائر في صوت القدر) رحم الله الشاعر أبو القاسم الشابي، شاعر الحب والحرية والوطن، شاعر الإرادة والحياة، النسر الذي حلق عاليا ولا يزال محلقا على القمة الشماء.