ما رأيناه من إصرار الصحراويين وتمسكهم بخيار الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية، يكاد يكون نادراً لدى شعوب أخرى، مشاق السفر، قلة المؤونة وصعوبة العيش في الفيافي لم يمنع الصحراويين الذين يحملون وطنهم في قلوبهم أينما حلوا وارتحلوا، ولا يؤمنون إلا بالاستقلال، إذا سألت أحدهم عن تحسن الإطار المعيشي والاهتمام بالصحة والتعليم وغيرها، لا يجيبك إلا بجواب واحد، أنه بحاجة للاستقلال، لا يضنيهم العطش ولا يضعفهم الجوع ولا تؤثر فيهم الحرارة اللافحة ولا البرد القارص، بقدر ما تحرق تصرفات السلطات المغربية أفئدتهم، وتعكر صفو حياتهم. وخلال تواجدنا في منطقة "تيرس" بالمكان المسمى "لجواد" تقاسمنا مع الإخوة الصحراويين جزءا من معاناتهم اليومية التي تدل على أن إرادة الصحراويين لن تثنيها المحاولات المغربية التي تحاول بكل الطرق العسكرية والاستخبراتية والدبلوماسية أن تغير قناعاتهم، ولقد اختصرها أحد الشعراء الذي تدخل خلال لقاء جاليات الجنوب الذي اختتم أول أمس في كلمة قال فيها أن "رائحة البخور لا تنتشر وتزكم الأنوف إلا بعد أن تحترق"، مضيفاً "أن ما أُخِذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". تذكّر الصحراويون وهم يختتمون أول أمس الثلاثاء أشغال الاحتفالية بالذكرى ال34 المخلدة لإعلان الوحدة الوطنية في الثاني عشر من أكتوبر أول لقاء دعا إليه الزعيم الشهيد الوالي مصطفى السيد، الذي أشرف على أول لقاء التقى فيه أعيان القبائل وتوحدوا على موقف واحد ألا وهو إعلان الثورة ضد المحتل المغربي، وتنسيق الجهود فيما بينهم، التي اختار لها الصحراويون هذا العام منطقة لجواد بأقصى جنوب الأراضي المحررة. وزير الإعلام الصحراوي السيد محمد المامي التامك، ذكر ل"المساء" أن هذا الحدث تزامن مع عدة أحداث، منها الملتقى الخامس عشر للجاليات الصحراوية من كل الجهات، لأول مرة بهذا الحجم وهذه الميزة، والالتقاء بجيش التحرير حامي هذه الأرض، وهذا له مغزى ودلالة كبيرة، ومن المفروض أن تحضر الجالية الموجودة في الأراضي المحتلة، لكن السلطات المغربية منعتهم من ذلك، وإذا كانوا سيغيبون عنا بأجسادهم فإنهم لن يغيبوا عنا بأرواحهم، ولن يستطيع الاحتلال المغربي أن يفصلهم عن القضية، ولقاء الجاليات يعد فرصة للتقييم الشامل وتقديم اقتراحات أعيان الريف وممثلي الجاليات. الكل كان في الموعد، مئات العائلات أتت على متن مركباتها الرباعية الدفع، من الجزائر وموريتانيا، وآخرون من سكان الريف المجاورين الذين شاركوا في سباق الجمال المدعو "الهجن"، عشرات الخيم نصبت، واستحال المكان من صحراء إلى مكان آهل في ظرف قصير، الصحراوين لا ينسون عادات الكرم والجود، لا يشعر مَن يكون بينهم بالغربة والوحشة والتعب، قاعدتهم في الزهد تقول أن "نأكل الطعام بالقدر الذي يوصلنا لا الذي يسمننا"، لقد أخذوا من تحمل وصبر الجمال ما يكفيهم لمواجهة ظروف الصحراء. ومن جهتهن تذكرت النساء الصحراويات اللاتي حاورنا بعضهن، أنهن يدفعن بأزواجهن وأولادهن إلى ساحة المعركة، ولا يبغين بديلاً عن الاستقلال، الحديث معهن يوحي بأن النصر المطبوع في قلوبهن، ترى بصيصه في أعينهن وحماستهم اللامتناهية. وهذا أحد الإطارات الصحراويين يذكر لنا أن واحداً من مسؤولي المينورسو الذي كان في البدء متحفظاً في التقرب من الصحراويين والحديث إليهم، أدهشه الصبر وقوة التحمل واكتفاء الفرد الصحراوي بقليل المأكل والمشرب، فأكد حينما انتهت مدة إقامته بالأراضي المحررة، بأن هذا الشعب الصامد لا يمكن هزمه. عندما بدأت الاحتفالية وقام الرئيس محمد عبد العزيز بتفتيش التشكيلات العسكرية، وتم رفع العلم الصحراوي، أحست الجاليات المجتمعة بدفء الوطن المشتت، وتنفست بعض الصعداء، وجددت العهد مع القوات العسكرية التي حضرت وقدمت استعراضها، وكل من التقيناهم من شباب صحراويين بمنطقة لجواد أكدوا لنا أنهم ضاقوا ذرعاً بالوضيعة الحالية التي لم تزدد إلا روتيناً قاتلاًً، في وقت يستمر فيه المغرب باستغلال ثروات المناطق المحتلة من بترول ومعادن ويقوم بتعمير المناطق، ويواصل عمليات الاستيطان والقمع والمساومة والتهديد، ضارباً كل القوانين الدولية عرض الحائط. عشرات الخيم نصبت، وأتى اللاجئون من كل حدب وصوب، شباب متحمس، تنظيم محكم، الكل ينتظر الاحتفالية التي جرت هذه السنة بمنطقة تحيط بها الجبال من كل جهة، قرابة المائتي خيمة نصبت لاستقبال الضيوف، الصحراويون معروفون بالكرم وسرعة البديهة، عندما يلتقيك أحد وتقول له أنك جزائري، تكبر في عينه، ولما سألت أحدهم عن هذه الاستقبال المتميز للجزائريين، استغرب سؤالي، وأكد لي أن الجزائر أمّ الصحراويين التي عوضتهم الحنان الضائع ووسعتهم برعايتها، وما تقدمه من مساعدات ومواقف لا يمكن لأي دولة أن تقدمه. وكان الحفل الساهر الذي نشطته بعض الفرق الموسيقية والشعراء، فرصة لالتقاء الفن بالنضال السياسي والعمل الجمعوي، الفنانون والشعراء حركوا مشاعر الحضور، وشحنوهم بالوطنية وتناغموا مع الرسائل الفنية التي كانت مجملها تدور حول محور المطالبة بالاستقلال والحث على افتكاكه من المحتل. مبعوث "المساء" إلى الأراضي الصحراوية المحررة: رشيد كعبوب