حين تجرنا مشاهد قصيرة إلى أن نعود بالذاكرة إلى أحداث قاسية، فهذه المشاهد تكون قد تركت بالتأكيد على أرواحنا أثرا ليس بالسهل، وحين شاهدت فيلم ''مات وجهي'' عادت بي الذاكرة إلى اجتياح رام الله عام ,2002 تذكرت القصف وإطلاق النيران، اعتقالي وإبقائي مقيد اليدين مغمض العينين، فقداننا الماء والطعام ولفافات التبغ، بقاؤنا بدون هواتف تصلنا بالعالم الخارجي، فقدان الإحساس بالوقت، فالليل خلف الجدران والنوافذ المغلقة، يوصل الليل بالنهار بظلام واحد، لم نكن نمتلك إلا الانتظار، أن ينتهي الحصار ويتوقف إطلاق النار، أو.. الموت. ''مات وجهي'' فيلم للمخرج الفلسطيني الشاب رمزي مقدسي، يقع تحت تصنيف الدراما، لكنه يمتاز بتكثيف الحدث في ثلاث عشرة دقيقة، حفلت باستخدام الرمز بالمشاهد بكثافة، فكان الرمز يختصر الحدث والمدة الزمنية، فالفيلم يروي حكاية شاب فلسطيني ينهض نشطا ليحلق ذقنه، فهو على موعد لاستقبال صديقة إسبانية، لكن المعركة تفاجئه، فتكون يوميات الحصار لإنسان يعيش منفردا لا يستطيع الخروج خوفا من القتل فيقضي أيام الحصار وحيدا. تبدأ الإشارة بالرمز من المشهد الأول الذي يحمل اسم الفيلم من خلال ثلاث صور للشخص الوحيد الذي يظهر فيه، صور تمثل الحكمة الهندية ''لا أسمع، لا أتكلم، لا أرى''، وكأنها تشير إلى أن العالم يرى ممارسات الاحتلال لكنه لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى، ليبدأ الفيلم بمشهد الشاب وهو يغني بعض الأغاني التراثية (على المربع بدي غني وبدي أفرجيكم فني) وهو يحلق ذقنه، حين يرن هاتفه يجد صديقته الآتية من إسبانيا على الهاتف تعلمه بوصولها فيطلب منها أن تنتظره في المطار وشرب القهوة حتى وصوله، وهو يكمل حلاقة ذقنه، يسمع صوت قذيفة وانفجار فيجرح وجهه وتسقط قطرات الدم على الرغوة البيضاء، في إشارة رمزية لما بدأ يحصل في المدينة فيغلق الباب على الحديقة ويتبادر الى سمعه صوت دوريات الاحتلال تعلن منع التجوال في المدينة، ويفتح التلفاز بحثا عن أية أخبار ولكن البث ينقطع والمذياع يبث أغاني لا علاقة لها بما يجري، فيرن الهاتف مرة أخرى ليجد صديقته مرة أخرى فيعلمها بما يجري ويطلب منها أن تنتظره، وهنا يبدو أن بطل الفيلم ما يزال على أمل لقاء ضيفته واستقبالها رغم فرض منع التجوال وصوت القصف والنيران... هنا تبدأ عزلة بطل الفيلم، وسط منع تجوال ومحاصرة مقر الرئيس والتهديد بقتله، فتركز العدسة على مشهد ساعة حائط تظهر مقلوبة والعقارب تعود إلى الخلف بدل أن تتجه إلى الأمام، بإشارة يفهم منها أن الوضع قد اختلف تماما، فيلجأ إلى تدخين لفائف التبغ حتى يسمع الأخبار فيسقط اللفافة من يده وينهض باتجاه الساعة وينزع عقاربها ويرميها أرضا، وكأنه يقصد أن الزمن قد توقف في هذه اللحظات، ويحمل دورقا به وردتان يضعهما بجوار التلفاز وصوت المركبات العسكرية يتعالى، وتساقط القذائف يمزق السكون، والهاتف يفقد حرارته، فيلجأ إلى الصاق الزجاج بالأشرطة اللاصقة حين يسمع صوت الطائرات المروحية. تتواصل الانفجارات وتقطع الكهرباء، لا يجد سوى شمعة يشعلها تنعكس على وجهه في العتمة، ويبقى أسير غرفته الصغيرة، فلا يقدر أن يخرج من البوابة، ينام على الأرض، تعود الكهرباء، فلا يجد في التلفاز إلا القمع لشعبه في ساحات الأقصى، وتمضي الأيام وهو في عزلته والخطر يلاحقه، تجف الورود وتتساقط أوراقها بمجرد لمسها، إشارة إلى مضي فترة زمنية طويلة في ظل الحصار، تطول ذقنه، فلمن سيحلقها وهو في العزلة؟ وحين يحاول أن ينظر من النافذة يتلقى تهديدا بالقتل ورصاصة في الهواء، فيجلس أرضا ويشتم، فهو لا يقدر أن يطل من النافذة، حتى أنه يقضي حاجاته الطبيعية في نفس الغرفة وكأنه في زنزانة اعتقال، وتنتهي لفافات تبغه ولا يجد إلا أن يقوم ببعض الحركات الصوتية وعلى وجهه أمام المرآة لعلها تنقذه من العزلة، أو هي بداية تشوش عقلي فينزع ملابسه ويبدأ برقصة تعبيرية على أنغام أغنية لريم تلحمي، وصوت المروحيات يشوش على الأغنية، وانعكاسات نور تتساقط على وجهه وكأنها حلم بفجر قادم، فلا يمتلك إلا أن يصرخ كعويل الذئاب، حتى يسقط أرضا لتنفجر قذيفة قريبة بصوت مرتفع. حين يصحو يسمع زقزقة عصفور، فيقلده وكأنه يتحدث معه، لتقطع الزقزقة صوت رصاصة، ويتناول الدورق الذي كانت به الورود وينظر الى الماء والأوراق الجافة المتساقطة بداخله فيبدأ بالتحدث مع الذات قائلا : ''حتى السجائر التي نؤرخ بها قد انتهت والحصار لم ينته ولا تزال روحي تحملني وأنا لا أستطيع حملها''، يتحدث بذلك على نور شمعة ثم يتناول لفافة تبغ من فم تمثال معلق على الحائط ويقول له : ''راح آخذ سيجارتك، وأعدك حين انتهاء الاجتياح أن أشتري لك علبة كاملة، فأنا يجب أن أدخن لأني مخنوق''.. لينتهي الفيلم بمشهد البطل يدخن آخر لفافة تبغ، رمادها ملتصق بها، ينظر في العتمة الى المجهول وذهنه شارد، حتى يسقط رماد اللفافة، فينزلها من يده، لتسود العتمة. الفيلم خرج عن المعتاد في تصوير الأفلام عن فترة الاجتياحات فهو صور حالة إنسانية لم تخرج فيها عدسة التصوير من إطار الغرفة والعزلة، تاركا للمشاهد أن يقدر ما يجري في الخارج من خلال صوت الانفجارات والمركبات العسكرية والطائرات المروحية ومكبرات الصوت، ومن خلال مشهد القمع في الأقصى عبر التلفاز، فلامس مباشرة الروح الإنسانية والمعاناة في ظل القمع والحرب والحصار، ابتعد عن مشاهد اعتدناها في أفلام أخرى، مشاهد الدبابات والدم والدمار. لكن تبقى هناك بعض الملاحظات، رغم أن المخرج تمكن من تصوير هذه الحالة الإنسانية لمعاناة شعب بأكمله من خلال فرد، إلا أن مشهد البنايات من النافذة لا يوحي أبدا بمشهد مدينة رام الله فمدخل البيت والبنايات التي ظهرت من النوافذ مبنية من الطوب الحراري الأحمر، وهذا يتنافى مع مدينة مبنية من الحجر الأبيض، إضافة إلى أن الصوت كان يعاني من ضعف بين المشاهد، فتارة يكون مرتفعا جدا، ومرات بالكاد يكون مسموعا ومع هذا نجد أن الفيلم كان مؤثرا من خلال الفكرة ومن خلال الموسيقى المرافقة والأغنية، فهو لجأ إلى موسيقى مارسيل خليفة وأغنية متناسبة مع الحالة لريم تلحمي.. فكان: ''مات وجهي''.