كلما حل عيد الاستقلال هلت معه أطياف الفرحة السرمدية وخفقت رايات الوطنية في سماء الحرية، واستعاد رعيل تلك الحقبة التاريخية الهامة كل الصور والمحطات والأحداث التي لا يمكن محوها، واستحضر مَن شهِدوا وقائع سنين الجمر صور الأبطال ومسلسل التضحيات الذي دام قرابة القرن ونصف، تلك الروح الوطنية والإيمان الراسخ بعدالة القضية والبعد الاستراتيجي الذي تحلى به أبناء الأمس، ويجدر أن يتجذر في مخيلات وقلوب جيل اليوم والغد. هذا الخامس المبارك كان الثمرة الغالية التي سقيت بدماء الشهداء ودموع اليتامى والثكالى الذين جسّد المستعمر في حقهم كل صور الأنانية والعبثية والعنجهية، وطبّق عليهم كل أنواع الحيف والزيف والاستبداد، وتفنّن في طمس كل ما يربطهم بتاريخهم وهويتهم ولغتهم ودينهم، لكنه لم يدرِ بأن حبل الكذب والظلم قصير مهما طالت السنوات. ويعد الخامس جويلية خاتمة تضحيات جسام ونهاية أطول حلقة استعمارية عرفتها المعمورة، واعتراف من أكبر نظام استبدادي بأنه لم يصمد بجحافل ظلمه ودبابات خيلائه أمام قوة الحق وصخرة الصمود.. فلم يكن يدري بأن ديجوره سيتبدد بخيوط النور والنار، وظن أنه سيخلد بأرض غير أرضه وسماء غير سمائه.. الخامس جويلية.. هو نهاية أسطورة اسمها ''الدولة العظيمة'' التي لا تقهر، و''الحلف الأطلسي'' الذي لا يصمد أمامه شيء، لقد تكسر واحد من أكبر الطابوهات في العالم وخابت نظريات أكبر المحللين والمختصين في العلوم الجيوسياسة والاستشرافية، وتبخرت آمال المعمرين ''المدمِّرين'' عندما ارتفعت حرارة الوطنية الجزائرية ودقت ساعة الحقيقة، وصار أصحاب الأرض لا يؤمنون إلا بخيار الاستقلال. ولم يكن الخامس جويلية هدية من ديغول وأتباعه وأذياله مثلما يتوهمون ويزعمون، ولو كان ذلك حقيقياً لكان دون دماء أو حرب ونضال طويل، ولم تكن هذه ''الأغلوطة'' إلا ورقةَ توتٍ استعملها المستعمر الخائب لتغطية بعض عوراته المنكشفة، وتخفيف آلام فشله وأحزان تصدّع نفسيته أمام أمم العالم التي شهدت للجزائريين بشهامتهم ومنافحتهم للمتغطرسين، بل الخامس جويلية هدية المخلصين المؤمنين بعدالة قضيتهم وطهر أرضهم وعرضهم من الشهداء والمجاهدين. وإذا كان البعض من جيل الاستقلال الذي لم يشهد أوزار الحرب ولم يكتوِ بنيران التمييز والإذلال والتقتيل والتشريد الممارس من طرف المستعمر، يظن أن الاستقلال جاء على طبق من ذهب أو تمخّض عن مناقشات ومفاوضات عادية، فإنه بعيد كل البعد عن عين الحقيقة وجادة الصواب، لأنه ''ليس من رأى كمن سمع'' كما يقال، وما مليون ونصف مليون من قوافل الشهداء الأبرار وآلاف المعطوبين والمصدومين إلا مؤشر على مخلفات المستدمر الطامع. وعلى جيل اليوم الذي يشهد التغيرات الدولية والتحولات الجيوسياسية والتحديات التي لا ترحم الضعفاء، ألاّ ينجر وراء نظريات ''الكبار الذين لا يقهرون'' ولا تغريه ''طُعُوم'' ومفاتن الطامعين، فلا خير ولا هناء ولا خلاص إلا على أرضنا وتحت سمائنا وبين أبناء جلدتنا، مهما كان حجم الخلافات والاختلافات التي لن تزيدنا إلا تشبثاً بتاريخنا وتقاليدنا ووطنيتنا. وعلينا نحن الذين نرى بأمهات أعيننا التغيرات في موازين القوى أن نحافظ على أمانة الشهداء وهدية المخلصين الذين أدوا الأمانة كاملة غير منقوصة ورموا الكرة في شباكنا، فلا خيار لنا سوى حفظ الأمانة وصيانة الوديعة كي نكون خير خلف لخير سلف.