شحيحة هي الابتسامة العفوية في مجتمعاتنا، ففي العديد من الإدارات والمصالح والمحلات التجارية لا تكاد الابتسامة تعرف طريقها إلى الشفاه، حيث يفترض أن تتجسد ثقافة الاستقبال عبر طلاقة الوجه للإيحاء بالسلام والقبول، وبدلا من ذلك أصبح العبوس حقيقة لا تخطئها العين رغم أن الدين يحبب هذه العادة.. فلماذا لا نبتسم ونحتسب الأجر؟ كثيرا ما يقال عن الجزائري أنه عصبي وفاقد للابتسامة التي لا تحتاج سوى لتحريك أربع عضلات في الوقت الذي يتطلب فيه التكشير تحريك 44 عضلة تقريبا!! فلماذا تغيب الابتسامة ويحل محلها العبوس وسط الجزائريين؟.. ''المساء'' طرحت هذا السؤال على شرائح مختلفة، فرد عدد من المواطنين متسائلين: ما الذي يبعث على الفرح والابتسام؟ فكان الجواب سؤالا أضيف إلى تساؤلنا!! مقطب الجبين، عابس الوجه، وإذا ما سألته عن أمر ما يرد ببرودة مصحوبة بتكشيرة في بعض الأحيان.. هذه هي الصورة التي كثيرا ما نرصدها في الإدارات والمحلات التجارية، رغم أن أصحابها أكثر الناس حاجة للابتسامة لكسب ود الزبائن وتسيير مصالحهم.. فلماذا يفتقدون إلى هذا العنصر المهم؟
الضغوطات تخفي النواجذ إثر إنجاز الموضوع، صادفت ''المساء'' في إحدى الإدارات مشهد عامل إداري ثار في وجه شخص، وطلب منه الانصراف دون أن يستفسر عن سبب تواجده في مكتبه.. ولما عرف الموظف ''الثائر'' بأنه جاء بطلب من زميل يعمل معه في نفس المكتب، اعتذر منه ثلاث مرات.. سألته ''المساء'' عن سبب توتره واستقباله للناس بهذه الطريقة، فأقر بأنه لا يتحكم في أعصابه عندما تحوم حوله ضغوطات العمل، والتي تغلب على تفكيره بالابتسامة وحسن الاستقبال. العديد ممن استطلعنا آراءهم ذهبوا في هذا الاتجاه، منهم ''صلاح الدين مسعودي''(طالب سنة أولى تخصص انجليزية) سألناه، فأجاب بابتسامة عريضة: ''من أين لنا بالابتسامة والمشاكل تعترض سبيلنا كل صباح؟''، ثم واصل حديثه ''صحيح أن الابتسامة غائبة في وسط العديد من الجزائريين، لكن هذا لا يعكس حقيقة طبيعة الفرد الجزائري الذي تدفعه الظروف المعيشية الصعبة للعبوس والتكشير رغما عنه.. فأنا شخصيا تتلبد حالتي المزاجية بمجرد أن تطأ قدمي الجامعة، نتيجة لمشاكل البيروقراطية التي تلاحقني منذ أن التحقت بها.. وقس على ذلك في العديد من الإدارات الجزائرية.س السيدة ''نسيمة'' (محامية) تؤيد هذا الرأي قائلة: ''إن افتقاد الابتسامة مؤشر على كثرة الهموم التي تجثم على قلب المواطن الجزائري، ومن أين له بالابتسامة وهو يعاني يوميا جراء اكتظاظ وسائل النقل وانعدام الدواء والعلاج الإشعاعي في المستشفيات، ضعف الرواتب وغلاء كراء المساكن.. وسئم من عبارة ''غير موجود'' التي تلتقطها أذنه كلما سأل عن منصب شغل أو سكن، وما إلى ذلك من متطلبات الحياة.. فكيف تتأتى الابتسامة في ظل هذه الظروف؟ وافقت طالبة تدرس سنة أولى فرنسية بجامعة الجزائر القول بأن الشعب الجزائري يفتقر إلى ثقافة الاستقبال، ولكن عندما سألناها عن سبب ذلك؛ أجابت بعبارة ''لا أدري ! زإيمان'' (طالبة مستوى الرابعة تخصص علم النفس) لا تنكر أيضا أن الشعب الجزائري تغلب عليه صفة العبوس، مشيرة إلى أن ذلك مرده إلى ضغوطات الحياة، وهي تعتقد أنه لو كانت ظروف الحياة مواتية لكانت حالته النفسية أفضل. أما صديقتها ''سارة'' (السنة الرابعة تخصص علم النفس) فترى أن ثقافة الاستقبال لا تغيب في وسط المتعلمين والمسؤولين بقدر ما تغيب لدى الأشخاص ذوي المستوى التعليمي المتدني غالبا. وعن سبب هذا الاعتقاد ذكرت: ''برأيي الأمر يرتبط بعقدة نقص يحاول أصحابها تغطيتها لفرض وجودهم من خلال التكشير وسوء الاستقبال''. ''سلمى'' (صحفية) أيدت هذا الرأي قائلة: ''لا مفر من الاعتراف بأن الشعب الجزائري عبوس وتسهل استثارته واستفزازه، مما يحرم ملامحه من الابتسامة والطلاقة، لاسيما وأن قاموس تنشئتنا الاجتماعية يفتقر إلى هذه الثقافة''. وتروي: ''في هذا المقام تحضرني صورة أستاذة مادة الانجليزية حينما كنت في طور الثانوي، فلم تصادفها عيني يوما وهي عبوسة أو مكشرة، بل كانت بشوشة توزع الابتسامات على طول الخط. بينما كنا نحن الطلبة نظن بها سوءا آنذاك، فنتجرأ على وصفها بالمجنونة!! للأسف، لم نفهم بأنها كانت تطبق مقولة ''الابتسامة في وجه أخيك صدقة'' إلا بعد حين من الدهر.
مفهوم خاطئ يقبع في الضمير الجمعي يعترف مدير مؤسسة عمومية أن العديد من الجزائريين يعانون من شح الضحك التلقائي في حياتهم اليومية، كونهم لا يتعاملون مع الضحك على أنه جزء طبيعي من الحياة. والتفسير المنطقي لذلك -بحسب المتحدث- أن ثقافتنا ربطت الابتسامة أو الضحك بعدم الاحترام والجدية. لذا تجد البعض مبالغين في كبت روح البشاشة والمرح رغم أنها من الأمور المحببة في ديننا الحنيف. واستكمل حديثه ل ''المساء'': ''المسألة ارتبطت في ضميرنا الجمعي بالوقار والجدية وبمفاهيم دينية مغالطة عن المقصد الحقيقي من مقولة ''الضحك يميت القلب''. فالوجه الضاحك ليس جاداً أو وقوراً، والعبوس هو مرادف الوقار في قاموسنا الاجتماعي.. وهذا المفهوم الخاطئ يغيب الابتسامة وثقافة الاستقبال في المصالح الإدارية والعديد من مجالات الحياة العامة.. ويستطرد المسؤول: ''مشكلتنا أننا لا ندرك أن الابتسام والضحك مطلوبان وأن المرفوض هو ضحك الذي يكون في غير مقامه مصحوبا بقهقهات. فالأمر يتعلق بغريزة طبيعية ليست سوى بحاجة إلى ترويض حتى لا تتسلل في الواقف والقضايا الجادة. ويختم حديثة بالقول: ''مفاهيم غريبة عن الجدية شكلناها بمعتقدات تقبر الابتسامة وتنشر العبوس، وهي بالتأكيد علاقات ليست طبيعية من صنعنا.
سلوك مفبرك السيدة عمراني زهرة ''خريجة كلية علم الاجتماع، ترفع تهمة العبوس عن الجزائريين، وتقول إن هناك كثيرين ممن يوزعون الابتسامات على عامة الناس في المقابل، ولا يمكن أن نحكم على الشعب كله بأنه عبوس لمجرد أن البعض من أفراده لا تعرف الابتسامة طريقا إلى شفاههم. وردا عن السؤال ''ما هي مشكلة البعض مع الابتسامة التي لا تفسد للود قضية''، صرحت أنه إلى جانب عامل ضغوطات الحياة الذي كلما ارتفع كلما قلت درجة الابتسام، هناك من يلغي هذه الصفة الحميدة من قاموس حياته، كونه ينظر إلى الناس من برج عاجي يحمله على الامتناع عن الابتسام تجاه من يعتقد بأنه أقل منه من حيث المركز أو المستوى الاجتماعي. وأحيانا يكون كبت الابتسام بمثابة سلوك ''مفبرك''، فيتصرف الفرد بطريقة مغايرة لحقيقة شخصيته للظفر باحترام الناس، وهذا ينطبق بصفة خاصة على بعض المسؤولين ممن يخشون أن يؤدي ابتسامهم للمستخدمين إلى فقدان هيبتهم، وبالتالي يضطرون إلى التعامل معهم بجفاء مع المبالغة في الظهور بمظهر الوقار حتى يحظو بالاحترام المطلوب، أضافت الأخصائية الاجتماعية. وفي قالب من المزاح، اعترف شرطي يعمل بمحكمة عبان رمضان أنه بمجرد أن يبدأ العمل حتى يتحول إلى شخص آخر.. ولكن كيف؟ عن ذلك أشار إلى أنه يرتدي قناع الجدية الذي يسلبه الابتسام، معتبرا ذلك ضرورة لكسب الهيبة وسط أفراد يرون في بشاشة وتواضع رجل الشرطة مؤشر ضعف، مما يحملهم على عدم الالتزام بتعليماته القاضية باحترام آداب الحضور في قاعة المحاكمة.
اغتراب يختزل العلاقات الإنسانية المتبادلة ولدى تسليطه الضوء على الظاهرة، أشار السيد علي قاسم أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة الجزائر، إلى أن عبوس الشعب أو عدمه يرتبط أساسا بالتنشئة الاجتماعية والنهج التربوي، مبرزا أن الابتسامة تغيب عادة في المدن الكبرى في مجتمعنا وبصفة خاصة في العاصمة، حيث يعمرٌها أناس ''مصطنعون''. وتابع: ''في بعض المناطق الجزائرية، حيث تقل ضغوطات الحياة لا تغيب الابتسامة عن الوجوه، لاسيما عندما يكون النمط التربوي مؤسسا على قيمِ تُكون شخصيات صبورة، اجتماعية، مضيافة ومستعدة للتضحية من أجل الآخرين، وبالتالي أفراد طبيعيون قادرون على التكيف والتوافق مع عادات وتقاليد وسطهم الاجتماعي. أما في المدن حيث تكثر ضغوطات الوسط الحضري وبالأخص في العاصمة، فإن الأفراد لا يبتسمون في الغالب في إطار تعاملاتهم مع بعضهم البعض، ويرجع ذلك إلى صعوبة المعيشة الطبيعية، إذ أنهم يفكرون لاشعوريا في الضرر لهذا ينتفي امتياز التعامل الطبيعي في علاقاتهم الاجتماعية. وهذا النمط من التعامل يعد بمثابة آلية للتحصين والوقاية، فالناس يعيشون مع بعضهم البعض إجباريا في المدن خاصة في العاصمة، فبالإضافة إلى الضغوطات النفسية الناجمة عن الحياة العصرية، تتميز العاصمة بوجود أناس غرباء يتميز التعامل فيما بينهم بطغيان الخوف من الآخر، ذلك أنها تشهد نزوح أفراد من مناطق مختلفة إليها باستمرار يعيشون فيها لسنوات محددة، ثم سرعان ما يهجرونها لتحل محلهم جماعات أخرى وهكذا دواليك. لذا لا يمكنهم أن يكونوا طبيعيين في تعاملاتهم مع الجميع، في وجود دينامكية متنقلة ومتغيرة تفرض على إنسان العاصمة العيش في قوقعة الفر دانية. وهذا الشعور له إسقاطات في مختلف المصالح الإدارية، حيث يتعامل الموظفون مع الزبائن على أنهم غرباء يتوجب عليه إسداء خدمة معينة لهم فحسب، مما يغيب العلاقات الإنسانية المتبادلة لتحل محلها علاقات مادية بالدرجة الأولى.
رأي الدين: امزح ولا تقل إلا حقا عندما نتمعن في أحكام الذكر الحديث نجد أن الضحك والابتسام وردا بدلالات مختلفة، منها ضحك السخرية والاستهزاء، وتتمثل في ضحك الكفار، وهو ضحك باعثه الاستكبار والعناد، عواقبه وخيمة كما ورد في قوله تعالى: ''فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاءً بما كانوا يكسبون'' التوبة .82 وفي المقابل، نجد ضحك النصر والفوز والفلاح، والذي لا يستشعره إلا من أتعب نفسه في استقصاء الحق لقوله سبحانه ''فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون'' المطففين .34 وهناك أيضا ضحك النعمة كضحك سليمان عليه السلام: ''فتبسم ضاحكا من قولها'' وضحك الاستبشار بنعيم الله: ''وجوه يومئذ مٌسفرة - ضاحكة مستبشرة''عبس 38-.39 أما الضحك في السنة النبوية، فكان تطبيقا للقرآن الكريم، فقد عرف عن النبي أنه كان يبتسم حتى تظهر نواجذه، لكن ضحكه كان من غير قهقهة. فالعبوس يتنافى تماما وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي حث على اتخاذ كافة الأسباب التي تؤلف بين القلوب. ومن أكبر تلك الوسائل التي استعملها -صلى الله عليه وسلم- في تحقيق هذه الغاية، تلك الحركة التي لا تكلف شيئا، ولا تستغرق أكثر من لمحة بصر، لتعمل على تذويب الجليد وكسر الحواجز بين الناس، فيشعر المرء مع تلك الحركة الخفيفة أنه يعرف الطرف الآخر من عشرات السنين، إنها الابتسامة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ''إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق'' رواه مسلم. بل وأضاف أن للابتسامة أجر يحتسب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ''تبسمك في وجه أخيك صدقة''. وكان النبي يبتسم مع أصحابه ويلاطفهم وفقا لما يدل عليه قوله: ''روحوا عن القلوب ساعة فساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت''. امزح ولا تقل إلا حقا، كان هذا منطق النبي الذي مازح الناس في بعض الأحيان مع حرصه على قول الحق، فلولا ذلك لما مالت قلوبهم إليه لقوله تعالى: ''ولو كنت فظا غليظ القلب لإنفضوا من حولك''، فلماذا لا نبتسم؟