سبع سنوات تمر على الاستفتاء على ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، مناسبة تستوقفنا عند ما حققه من إنجازات والتي يأتي على رأسها وقف دوامة العنف التي اجتاحت البلاد طيلة عشرية كاملة، وبين مرحب ومنتقد لهذه السياسة فإنه لا يختلف اثنان في أنها أوقفت نزيف الدم وغيرت صورة البلاد إلى الأحسن ولا أدل على ذلك من تحسن الوضع الأمني بشكل كبير بشهادة القاصي والداني. ما كان لأحد أن يتصور أن همجية الإرهاب كانت ستنطفئ بعد محاولته تقويض أركان الدولة، بل أكثر من ذلك المساس بتاريخ وثقافة الشعب الجزائري، الذي رأى ضرورة أن يتسامى نهائيا فوق هذه المأساة التي لا تتمثل في مجادلات نظرية مجردة أو ايديولوجية يتعاطاها من يتحرك داخل البلاد أو خارجها من النشطاء أو المنظمات. وبما أن المسألة تعني أمن ممتلكات الناس وأرواحهم وحتى أعراضهم، أي كل ما له حرمة في نظر الإسلام وما هو تحت حماية القانون وضمانه، فقد تغلبت الجزائر على هذه المحنة بفضل إصرار شعبها واستماتته في المقاومة التي كلفته تضحيات جسام من الأرواح والدماء من أجل بقاء الوطن. وبتيقن المواطنين فإنه دون عودة السلم والأمن، لن يثمر أي مسعى من مساعي التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالثمار التي يتوخونها منه، فقد أدركوا أنه لا مناص من الخوض في مسعى جديد قصد تحقيق المصالحة الوطنية، انطلاقا من أنه لا سبيل إلى اندمال الجروح التي خلفتها المأساة الوطنية دونها. فسياسة الوئام المدني، على غرار سياسة الرحمة التي سبقتها، مكنت من إفشال محاولات تشتيت شمل الأمة، كما مكنت من حقن الدماء واستعادة استقرار الجزائر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ومؤسساتيا، وبتبني سياسة السلم والمصالحة ستستكمل الجهود المبذولة من قبل جميع مكونات الشعب الجزائري من أجل بقاء الجزائر، وهو ما يؤكد أيضا عزمه على تفعيل ما استخلصه من عبر من هذه المأساة. وبمصادقته على هذا الميثاق، يجزم الشعب الجزائري أنه لا يخول لأي كان (في الجزائر أو خارجها) أن يتذرع بما خلفته المأساة الوطنية من جراح وكلوم، أو يحاول المساس بمؤسسات الدولة، أو زعزعة أركانها، أو تشويه صورة الجزائر على الصعيد الدولي . تعزيز الوحدة الوطنية والقضاء على بذور البغضاء من هنا، بارك الشعب الجزائري اتخاذ إجراءات ترمي إلى تعزيز وحدته والقضاء على بذور البغضاء واتقاء الخروج عن جادة السبيل مرة أخرى، مع رفض أن تستغل الأزمة التي مرت بها البلاد من قبل الأوساط المناوئة في الداخل وأذنابها في الخارج. كما أنها، من خلال تزكيته لهذا الميثاق، يروم الشعب الجزائري استتباب السلم وترسيخ دعائم المصالحة الوطنية، ويعتبر أنه بات من واجب الجميع أن يدلوا بدلوهم في إشاعة السلم والأمن وتحقيق المصالحة الوطنية، حتى لا تصاب الجزائر مرة أخرى بالمأساة الوطنية التي تكبدتها؛ فالشعب الجزائري مدعو إلى الإسهام في توطيد الوحدة الوطنية وترقية وتعزيز الشخصية والهوية الوطنيتين والحفاظ على ديمومة ما جاء في بيان ثورة أول نوفمبر 1954 من قيم نبيلة عبر الأجيال، ولما كان مقتنعا بأهمية هذا المسعى الذي سيجعل الأجيال الآتية في مأمن من مخاطر الابتعاد عن مرجعياتها وثقافتها، فإنه ينيط بمؤسسات الدولة اتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على الشخصية والثقافة الوطنيتين وترقيتهما. وقد كانت لهذه السياسة نتائج إيجابية على أرض الواقع من خلال الحصيلة التي أعدتها خلية المساعدة القضائية لتطبيق قانون المصالحة الوطنية في الجزائر، مسجلة أنه في الفترة الممتدة من 2002 وإلى غاية 2005 بلغ عدد القتلى 6841، في حين أنه بعد تطبيق هذه السياسة انخفض العدد، حيث قدر ب 5411 بين الفترة 2006 و2011، ورغم ذلك فإن مكافحة الإرهاب لم تتوقف مع إجراءات المصالحة من خلال القضاء على 1600 إرهابي من 2006 إلى غاية 2011، في حين سلم 8500 إرهابي أنفسهم. ومازال العديد من الحقوقيين يطالبون باستكمال مسار قانون المصالحة الوطنية من أجل معالجة الملفات العالقة، خاصة بعد أن عالجت جزءا كبيرا من آثار وملفات الأزمة الأمنية في الجزائر، لاسيما بتراجع نشاط الجماعات الإرهابية ووقف المجازر الجماعية التي كانت تستهدف المواطنين الأبرياء، إلى جانب التفجيرات والأعمال الهمجية التي خلفت مقتل 120 ألف مواطن و7400 مفقود وتدمير 4 آلاف مؤسسة إنتاج ومصانع وفقدان 400 ألف منصب شغل، إضافة الى عدد من المعطوبين والنساء المغتصبات وعشرات الأشخاص الذين طردوا من وظائفهم وعشرات المعتقلين الذين نقلوا إلى محتشدات في الصحراء لمنعهم من الالتحاق بالمجموعات الإرهابية، غير أنه بعد تطبيق قانون المصالحة الوطنية تم بعث العديد من الأنشطة التي كانت متوقفة الى حين. ولعل أبرز ملف أدرجه ميثاق السلم والمصالحة الوطنية يتعلق بقضية المفقودين والتي تعد إحدى عواقب آفة الإرهاب، حيث كانت حالات الاختفاء في العديد من المرات بفعل النشاط الإجرامي للإرهابيين رغم محاولات تحميل الدولة مسؤولية التسبب في هذه الظاهرة. وقد أكدت الدولة تحملها لمصير كل الأشخاص المفقودين في سياق المأساة الوطنية، مع اتخاذ الإجراءات الضرورية بعد الإحاطة بالوقائع، معتبرة أن الأشخاص المفقودين ضحايا للمأساة الوطنية، ولذوي حقوقهم الحق في التعويض. وليس من الصدفة أن يثار موضوع المفقودين خلال هذه الفترة بالذات والتي يشهد فيها العالم العربي ما يسمى ب«الربيع العربي"، في محاولة لخلط الأوراق وممارسة بعض الضغوط على ضوء تقارير ومراسلات تبعثها بعض العائلات التي لا يتعدى عددها 24 عائلة للمنظمات الدولية بما فيها منظمة الأممالمتحدة. وتشير خلية المساعدة القضائية لتطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية إلى أن عدد المفقودين، الذين لم تتم بعد تسوية ملفاتهم يتراوح ما بين 50 و60 شخصا، وأن 6400 شخص استلموا محاضر الفقدان وتم تعويضهم من مجموع 6541 مفقودا مسجلا، وأن 24 عائلة فقط تظل ترفض الإجراءات التي يتضمنها قانون المصالحة الوطنية بحجة تمسكها بكشف الحقيقة وتطبيق العدالة. وإذ يتم التركيز على ملف المفقودين دون تقديم دلائل مادية، فإنه يتم التغاضي عن إدراج -مثلا- قضية النساء المغتصبات والأطفال الذين ولدوا في الجبال والأشخاص الذين اختطفوا من قبل الجماعات الإرهابية، في حين أن المفقودين هم أيضا من رجال الشرطة والدرك والجيش والحرس البلدي ولا تخص فئة الإرهابيين فحسب. فإذا كان ميثاق السلم والمصالحة الوطنية آلية فعالة لحقن دماء الجزائريين واستتباب الأمن والسلم، فإنه يعد بمثابة استباق لما يمكن أن يصدر من أحكام مسبقة والتي من خلالها تسعى بعض الأطراف الخارجية للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد رغم أن العديد من الدول قد أدارت ظهرها إزاء ما كان يحدث في الجزائر من عنف وتقتيل خلال العشرية الماضية، بل ظلت في موقف المتفرج دون أن تنبس ببنت شفة، واليوم بعد تطبيق الميثاق الذي يعد تجربة جزائرية خالصة تراها تحاول اللعب على أوراق خاسرة من خلال إثارة قلائل ذات صدى ضعيف.