رغم الأهمية الكبيرة التي كانت تحضى بها الحمامات الشعبية في الماضي، إذْ كانت تعتبر جزءا من الحياة الإجتماعية، وتحديدا بالنسبة لسكان القصبة الذين كانوا يقصدونها بغية الإستحمام أكثر من ثلاث مرات في الأسبوع، إلا أنها فقدت اهتمامها اليوم بعد ما تم تحويل بعضها إلى مخازن، وأخرى إلى متاجر، أو غرف للسكن لسبب بسيط، وهو انتشار الحمامات بالمنازل والخوف من الإصابة ببعض الأمراض. عند الحديث عن الحمامات التقليدية، سرعان ما يتجه تفكيرنا إلى القصبة القديمة، حيث لا تزال بعض الحمامات التي تعود إلى العهد العثماني شاهدة على عراقتها، ولا تزال إلى حد اليوم تقدم خدماتها للراغبين في الحصول على حمام ساخن من عبق الماضي. ومن خلال الجولة الإستطلاعية التي قادت “المساء” إلى أروقة القصبة الضيقة التي تنبعث منها روائح العراقة للبحث عن بعض الحمامات التي تعود إلى أزمنة بعيدة، دلتنا عجوز على “حمام الباي”، وفي طريقنا إليه، قالت العجوز؛ جئت من القبة لقضاء حاجة في ساحة الشهداء، وبما أنني على علم بوجود الحمامات التقليدية بالقصبة، قررت أخذ حمام أنعش به جسمي وأستعيد به ذكريات الماضي بالقصبة العزيزة، وعلقت قائلة؛ لا شيء يضاهي تحميمة زمان، في هذه الأثناء، تبادر إلى أذهاننا أن ثقافة الإستمتاع بالحمامات العتيقة لا تزال رائجة لدى البعض، وهو ما تأكد لنا عقب دخولنا إلى”حمام الباي” الذي كان يعج بالنساء على اختلاف أعمارهن، حيث كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا، وعند دردشتنا مع السيدة نادية الحاج، المسؤولة عن تسير الحمام، عن مدى الإقبال على مثل هذه الحمامات، خاصة وأن معظم العائلات اليوم تملك أحواضا للإستحمام في منازلها بمقاييس عصرية تؤمن لها الرفاهية المطلوبة، قالت؛ “حمام الباي لا يزال يتمتع بالشعبية التي كان عليها في ما مضى، بدليل أننا نستقبل في بعض الأحيان ما يزيد عن 70 امرأة، خاصة مع نهاية الأسبوع أو عند إحياء بعض المناسبات الدينية والأفراح، وتردف قائلة؛ “تزور هذا الحمام نسوة من مختلف مناطق الجزائر؛ على غرار بومرداس، الرغاية ، القبة، الشراقة وغيرها، وهذا دون الحديث عن سكان القصبة الذين يعدون من زبائن الحمام الدائمين والأوفياء، ورغم مغادرة بعضهم للقصبة، إلا أنهم يأتون خصيصا للاستحمام عندنا. وتضيف قائلة؛ “لا يزال حمام الباي يسير بنفس الطريقة التي كان عليها في الماضي، إذ تقصدنا مواكب العرائس للاستحمام، بعضهن يطلبن كراء الحمام للفتاة المقبلة على الزواج لإحياء بعض العادات القديمة، على غرار القيام بتصديرة الحمام، ارتشاف الشاي وتوزيع الحلويات داخل الحمام، كلها طقوس نحرص على إحيائها حفاظا على عادات الزمان الماضي. وفي ردها عن سؤال “المساء” حول انتشار بعض الأفكار الداعية إلى مقاطعة الحمامات، من منطلق أنها تعد مصدرا لبعض الأمراض الجلدية لافتقارها للنظافة، جاء على لسان محدثتنا أن من بين الأمور التي تشدد عليها؛ النظافة، إذ تحرص كل صباح قبل فتح الحمام على تنظيف كل أركانه بالملح وماء الجافيل، كما تلزم كل سيدة تقصد الحمام جلب مواد تنظيف خاصة بها لتنظف المكان الذي تستحم فيه، أما فيما يخص فوط الحمام، فقالت؛ “لا نشترك في استعمال نفس الفوط في حمامنا، إذ تُلزم كل سيدة على جلب لوازمها معها، وإن حدث ونسيت إحداهن فوطتها أو صابونها، فإننا نبيعها مما نؤمنه في حمامنا، فلا يخفى عليكم أن بعض زائرات الحمام عندما يقصدن ساحة الشهداء، يدفعهن الحنين إلى زيارة هذه الحمامات للتمتع بحمام منعش ولا يحملن معهن عدتهن، وبالتالي نبيعهن ما توفر لدينا؛ كالفوط، الغاسول والصابون. سمحت لنا السيدة نادية بإلقاء نظرة على ما يوجد بالحمام، إذ تقابلنا بمجرد الدخول إليه قاعة كبيرة مفروشة الزرابي، تجلس عليها النساء لتغيير ثيابهن، يقابلها ممر صغير يقودنا إلى ما يسمى بالبيت “السخونة” التي ما إن اقتربنا منها حتى لفحتنا حرارة الغرفة، كما توجد أيضا غرف أخرى لمن ترغب في الاستحمام على انفراد، حيث عادة ما تطلب العروس الإنفراد بغرفة خاصة، وعن مصدر المياه قالت محدثتنا؛ “إن حمام الباي بُني على ينبوع طبيعي من المياه المتدفقة التي نقوم بتسخينها لنؤمن لزوار الحمام الحرارة المطلوبة. زيارتنا إلى حمام الباي جعلتنا نطرح الكثير من الأسئلة حول الحمامات في الجزائر، الحقبة التي تعود إليها، وكيف كان يستحم الناس قديما قبل وجودها، كل هذه الأسئلة أجابنا عنها الباحث والمؤرخ محمد بالمدور. الأندلسيون رسخوا ثقافة الحمامات في المجتمع الجزائري حدثنا محمد بالمدور المكلف بالاتصال بالوكالة الوطنية لتسيير الممتلكات الثقافية المحمية، وباحث ومؤرخ عن كيفية انتشار ثقافة الحمامات في المجتمع الجزائري، فقال؛ “لم يكن المواطن الجزائري في العهود الغابرة يعرف معنى الحمام، إذ كان الرجال يستحمون بالينابيع أو ما يسمى “بالعنصر”، أما النساء فكن يغتسلن بمنازلهن إلى غاية سنة 1492، حيث دخل الأندلوسيين إلى الجزائر التي كانت عبارة عن عاصمة صغيرة تعرف انتشارا لبعض الحرف البسيطة التي عملوا على تطويرها، كما جلبوا حرفا جديدة معهم، وباتت الأحياء تسمى باسم الحرف الأكثر انتشارا، على غرار حي النحاسين وحي الحرارين، كما أقاموا الكثير من الحمامات، فلا يخفى عليكم أنهم كانوا من المجتمعات المحبة للعيش في الرخاء والرفاهية، من أجل هذا قاموا ببناء العديد من الحمامات، حيث فاق عددها 60 حماما في القرن 17، والغريب في الأمر يستطرد محدثنا “أن هذه الحمامات بُنيت بنظام خاص، إذ كان هناك حمام خاص بالنساء يدعى “حمام الفوطة”، إلى جانب حمام خاص بالجيش الإنكشاري، حمام بوشلاغم الذي كان مخصصا للرجال، حمام الباي وغيرها. وجاء على لسان محدثنا أن هذه الحمامات، على الرغم من تصنيفها؛ إذ كان لكل واحدة منها فئة معينة من الناس تستحم بها، غير أنها اجتمعت في طريقة التصميم والتفصيل، إذ نجدها مبنية بنفس الطريقة، وتحوي عموما من خمسة إلى ستة غرف، تخصص إحداها لاستقبال الوافدين على الحمام، لأن الإقبال عليها كان كبيرا، مما كان يضطر البعض إلى انتظار أدوارهم، إلى جانب غرفة تغيير الثياب، البيت “السّخون” المخصصة للإستحمام، غرفة أخرى للإستراحة، والبيت الباردة. أما بالنسبة للماء الذي كان يستخدم للإستحمام، فكان مصدره الينابيع التي عادة ما كانت تبنى الحمامات عليها، أو عن طريق جلبها من المخازن التي كانت تزود سكان القصبة بما تحتاجه من المياه. زيارة الحمامات كانت جزءا من الحياة الإجتماعية لسكان القصبة، غير أن الحفاظ على هذه العادة سرعان ما تلاشى عقب الاستقلال، حيث قال بالمدور؛ “هجر سكان القصبة منازلهم وقصدوا المنازل التي بناها الفرنسيون، وعقب دخولهم المنازل، اكتشفوا أحواض الاستحمام التي جعلتهم يستغنون عن الحمامات التقليدية التي حولها أصحابها إلى مخازن أو محلات لممارسة بعض الحرف، الأمر الذي شوّه العديد من الحمامات وأفقدها عراقتها وطابعها المعماري. وفي رده عن سؤال “المساء” حول كيفية تفسيره للانتشار الكبير لبعض الحمامات العصرية، مما يعني أن الحاجة إلى الاستحمام بالحمامات لا تزال قائمة، قال محدثنا؛ إنه لا مجال للمقارنة بين الحمامات القديمة وحمامات اليوم التي وجدت لغرض تحقيق الربح السريع، كما أن زوارها يقصدوها رغبة في الإطلاع على التقنيات الحديثة المستخدمة في الحمامات، على غرار تهيئة أحواض الاستحمام وكيفية تسخين الماء وغيرها، أي أن الحاجة التي كانت تدفع بالناس إلى زيارة الحمامات فقدت اليوم، خاصة بعد أن أصبح البعض يقيمون حمامات بمنازلهم، ومن ثمة زالت الكثير من العادات التي تمثل عراقة المجتمع الجزائري. ولعل أبسط مثال على الاختلاف بين حمامات الوقت الماضي وحمامات اليوم، هو الطاقم الذي كان يعمل في الحمامات القديمة، إذ كان بها المكلف بالبرمة التي تعمل على تسخين الماء، الكياس والمكلف بمراقبة الأطفال وحمايتهم، المكلف بالخزنة وهو عادة المسؤول عن الحمام، والمكلف بتنظيف فوط الحمام وهي عادة امرأة متقدمة في السن تكلف بتنظيف فوط الحمام، أما اليوم، فنجد شخصا واحدا يشرف على إدارة كل الحمام، مما يجعله يغفل عن الكثير من الأمور، خاصة ما تعلق بالنظافة، لأن همه الوحيد السعي لتحقيق الربح، ولعل هذا ما جعل البعض يستغني عن عادة زمان في الاستحمام بالحمامات القديمة.