بعد يوم شاق وحشر خانق في طابور ملتو، إمتد إلى الشارع الموازي للبريد، استلمني يوم آخر في نفس اليوم بعذاب جديد مع طابور ووسخ وعفونة الحافلة التي كانت تسير بسرعة السلحفاة. وصلت مع الشفق إلى قريتي بأعالي العاصمة، ونلت قسطي أيضا من أتربتها وغبارها، وما إن وطئت رجلاي الحوش حتى وقعت متعبا متهالكا.. وضعت زوجتي وسادة تحت رأسي المغبر وغادرت هذا العالم.. غبت في نوم عميق طويل كنوم أهل الكهف وضمتني الأحلام بفيض من الأحلام وهالة من البشر.. استحالت القرية مدينة مترامية الأطراف، والأزقة الترابية المحدودبة إلى شوارع أنيقة مزفتة، والأحواش الحجرية والطينية عمارات شامخة وفيلات فاخرة، والدكاكين الخاوية متاجر فسيحة يؤمها أناس قيل أنهم كانوا يوما ما فلاحين كادين فمسخوا متسوقين.. كل هذا التطور الحاصل في المدنية والرفاه والترف مصدره رئيس البلدية ومجلسه الموقر الذي ضحى بوقته وصرف الشيء الكثير من ماله لأجل هذه البلدة وناسها الطيبين.. مجلس لا يهمه استرجاع ما أنفق في الحملة، أو إسترداد أضعافه لأن ذلك من تحصيل حاصل، ولكن همه كما صرحوا جميعا وفرادى خدمة الوطن والمواطن والقضاء على البيروقراطية والمحسوبية والمحاباة وكل أنواع الغش والعبث بالمال العام، مال البلدية، حيث أكد رئيس المجلس مرارا بأنه لايجوز لأحد التصرف فيه إلا هو أو بإذن منه، ويكون تحت عينه حتى لا يذهب بعيدا أو ينفق في مشاريع لا طائل من ورائها كالتربية والصحة والبيئة وغيرها.. مجلس كل أعضائه جامعيون، حاصلون على شهادات في اختصاصات مختلفة، حتى أن اختصاص أحدهم لم يدرج حتى الآن في أي جامعة من جامعات العالم.. كسروا القاعدة وأثبتوا الإستثناء. يخاطبون أهل القرية بلغات مختلفة لا يفهمها إلا هم، هم يدركون أن الناس لا يولون للخطابات أهمية، أو اللغة التي يلقى بها الخطاب، ولكن مع هذا كان الناس من حين لآخر يستوقفونهم ويخبرونهم بأنهم لايفهمونهم ولا يفقهون لغتهم.. يتجاهل المير وحاشيته انتقادات المواطنين ويصرون على رفع التحدي، ويعلنون أنفسهم أوصياء، يحق لهم أن يفكروا بدلهم، لأنهم يحبونهم، ويريدون راحتهم، تبادلوا الأدوار على المنصات وأمعنوا في الخطابات، ولما أيقنوا أن الناس تعبوا وأخلدوا للنوم، رتبوا قائمة وأعلنوا أنفسهم مترشحين... ولما استيقظت متأخرا، خرجت من الحوش، وما إن وضعت رجلي في الزقاق لأستطلع الأمر حتى غاصت رجلي في الوحل، ورأيت صور ولافتات المترشحين تغطي الجدران الحجرية والطوبية والأشجار العتيقة، والحال هو الحال.