تستوقفنا ونحن نتجوّل في شوارع العاصمة، ظاهرة بعيدة كل البعد عن مجتمع، عرف عن دينه الإسلام، وعن أخلاقه الكرم، وعن نفسه العلو والكبرياء، حيث تقابلنا في كل ركن وكلّ زقاق من أركان بلادنا وأزقتها، مشاهد اعتدنا رؤيتها يوميا، من بينها مشهد متشرد يقتات مما يجود به أغنياء الناس عليه. الكثير من هؤلاء الأشخاص يأتون إلى العاصمة من المناطق الداخلية بحثا عن العمل، وآخرون يقدمون إليها هروبا من واقع فرض عليهم، من اضطهاد وسوء معاملة أسرهم وأقاربهم، أو لارتكابهم أخطاء لا تغتفر، على الأقل في قانون عشيرتهم، ما جعلهم يشدّون الرحال ويغادرون ديارهم وأحياءهم طمعا، ربما، في حياة أفضل أو مستقبل أكثر إشراقا. لكن الكثير منهم وجد نفسه أسوء مما كان عليه، وصار يتسوّل في الشارع، وأصبح مد يده إلى الناس يتم عنده بشكل ميكانيكي، أخبار اليوم تقربت من هؤلاء واستمعت إلى حكاياتهم، والتي تثير، أقل شيء، الشفقة في القلوب. إنّ ما أثار فينا الإحساس بالأسف والحيرة معا، ليس بؤس الحالات التي صادفناها في تحقيقنا الميداني فحسب، بل تذكرنا أن أولئك المتشردين إنما هم أباؤنا وأولادنا وإخواننا وأخواتنا، قد كانوا بالأمس القريب بيننا في عزّة وكرامة، حتى إذا ما تقلبت بهم الدنيا، وما أكثر تقلباتها صاروا منّا كالعلة من الجسد، حتى نبذنا منظرهم، وتقززنا من رثاثة ثيابهم، وصرنا لا نعطيهم إلاّ إذا أردنا التخلص من إلحاحاتهم علينا. لقد قابلنا متشردين كثر في الأزقة والشوارع، غير أن قليلين هم من تحدثوا إلينا، وارتاحوا لنا، فقصوا علينا حكايتهم والزمن، وصراعهم معه، وتفوقه عليهم إلى حين.. وأولى الحالات التي تكلمنا معها، هو الشيخ إسماعيل، هذا الذي قصّ علينا مأساة ماضيه، ومعاناة حاضره، والخوف من غده،.. وجدناه مستلقيا على الأرض ممددا، وفيما يمدّ غيره يده للمارة، راح هو يمد بصره إلى الأفق في تأمل وتفكير عميقين، ولما أثارت حالة الشيخ إسماعيل فضولنا لم نشأ إلاّ أن نسمع منه حكاية، لابدّ وأن تحوي مغزى عميقا، فقطعنا عليه تفكيره، راجين أن يفهم سؤالنا، ويعذر تطفلنا عليه. ولما أغلقت كلّ المنافذ... حكى لنا الشيخ إسماعيل بعد تردد وبنبرة متقطعة حكايته فقال: »كنت سابقا رجلا بسيطا، وكان لي ولدان وبنت منحتهم من العطف، ومنحوني من السعادة ما جعلنا نشكل أسرة قانعة بعيشة راضية، ولأن زوجتي توفيت كان عليّ أن ألعب دور الأب والأم معا، فتنازلت كثيرا، وضحيت طويلا، وكان عزائي في ذلك أمل.. أمل في يوم أرى فيه أبنائي يكبرون أمامي، ويقاسمونني عبء الحياة، ومشاقها، لكن وللأسف، فقد فقدت ثلاثتهم، فأما الولدان ما إن أنهيا دراستهما حتى هاجروا البلاد، وأما البنت فسرعان ما انتقلت إلى بيت الزوجية بعيدا عني، فبت وحيدا، لا أرى صور أولادي إلاّ في أحلامي، ولا أسمع أصواتهم إلاّ عبر الهاتف، في مناسبات متباعدة، حتى يوم خانتني فيه أحلامي، فلم أعد أراهم، وانقطعت عني مكالماتهم، فلم أعد أسمعهم، ولم تعد تؤنسني إلاّ بعض صور وذكريات قد ولى عهدها وفات.. ولأن منزلي كان سكنا وظيفيا، وبإفلاس المؤسسة التي كنت أعمل فيها، فقد حكم علي أن أفقد حتى السكن الذي كان يأويني، فذهبت للإقامة عند ابنتي وزوجها بعد حيرة وتردد كبيرين، إلاّ أن ترحيبهم بي وفرحهم بنزولي بينهم أزاح عني ذلك الخوف، وزرع في نفسي ارتياحًا كبيرًا، فأقمت عندهم بضعة سنين، كبر فيها أولادهم، وزادت مسؤولياتهم، ولما أحسست بتبرم زوج ابنتي لوجودي بينهم، وأدركت أني صرت عبئا، فوق كاهلهم، فضلت قسوة الشارع على قسوة الكلام الجارح، وصرت إلى ما وجدتموني عليه الآن.. ولما سألنا الشيخ »إسماعيل« عن ابنيه المغتربين، سرح قليلاً ثم أجابنا: »لا أظن أنهم أحسن حالاً مني، ورغم أنهم، وقبل انقطاع مكالماتهم عني كانوا يؤكدون لي تحسن أمورهم، إلاّ أني كنت أحسّ في نبرة صوتهم الخيبة، وفي كلامهم الشقاء والحرمان، غير أني كنت أخفي إحساسي هذا عنهم لئلاّ أزيد عذابهم، كما كنت أنتظر اليوم الذي يعودون فيه إليّ، ولازلت أنتظر هذا اليوم، وهذا اليوم لا يأتي.. هذا اليوم لن يأتي...، وتركنا الشيخ إسماعيل كما وجدناه، مادًا بصره إلى الأفق مرددًا هذه الكلمات: »هذا اليوم لن يأتي.. هذا اليوم لن يأتي.. بين ألم الماضي ورجاء المستقبل.. بعد الشيخ إسماعيل التقينا السيدة »هاجر«، التي أجهدتنا محاولات الحديث معها، فلم نزل نحاول التقرب منها، حتى ارتاحت لنا، وراحت تحكي قائلة: كنت فتاة بسيطة ساذجة، أقطن قرية ريفية وأنتسب إلى عائلة محافظة، وكانت كل سعادتي في الحياة أن أرى أبي راضيًا عني وأمي تتحدث عن شبابي وجمالي لنساء القرية، وتفاخر بي أمامهن. وحدث أن قدم لقريتنا شاب من العاصمة، وسبب مجيئه أعمال يقوم بها، ثم يمضي لشأنه، وصادف أن رآني ذلك الشاب فأعجبته، وماهي إلاّ أياما قلائل حتى زارنا في بيتنا، فقام بخطبتي، ووافق أبي لصفتين اثنتين وجدهما فيه، ورأى أنهما مصدر الكمال في الرجل، أولهما: الثقافة، وثانيهما: المكانة الاجتماعية.. وما وجدتني إلاّ أزف لذلك الشاب العاصمي، وأنتقل معه للسكن في بيئة غير التي اعتدتها، ومحيط غير الذي نشأت فيه، ومرت على زواجنا أعوام أنجبت فيها منه ولدين، وكانت الفترة التي عشت فيها معه أسوأ فترات حياتي، فلم أعرف سيئة إلاّ وجدتها فيه، فقد كان يضربني ويشتمني دائمًا، وبلغ من تماديه أنه كان يستضيف رفاقه للسهر في بيتنا، وكانوا يسكرون طوال الليل، ولم يكن أمامي حيال ذلك كلّه إلاّ عبرات أذرفها، ودعاء أتضرع به إلى الله ليفرج عني كربتي ويزيل همي، ولازلت على تلك الحال أحتمل في معاشرته مالا طاقة لبشر في احتماله، طامعة في غد مشرق، وخوفا من مصير أسوأ، فأما الغد المشرق فلم أر نوره، وأمّا المصير الأسوأ فقد لحقني سريعًا حيث طلقني زوجي، وزاد على ذلك أن طردني من بيته، ولما أردت المطالبة بحقوقي مثل النفقة والإيواء، تهت بين ألاعيب المحامين وثغرات القانون، لجهلي بالأولى، وتعثري في الثانية، ولأنه لا أحد لي في العاصمة ولا يمكنني العودة إلى قريتي وجدت نفسي مشردّة في الشارع، أجرّ طفلاي في دهاليز المجتمع المظلمة، ومتاهات المستقبل المجهول، ولما ضاقت بيّ منافذ الأرض، وانغلقت دوني أبواب الرزق، اضطررت لأن أعيل أولادي تسولاً، ثمّ أشفقت من أن يكبرا في جوّ يكونان فيه عرضة لعلل المجتمع المختلفة، فأوكلت أمرهما لأحد الملاجئ علّهما يجدان فيه ما عجزت أنا عن توفيره لهما، من مأكل، وملبس، ودراسة، واستقرار.. وبقيت وحدي أتسول لأحصل على قوت يومي، راجية أن يجمعني المستقبل بولّدي، وأن يلمّ شملنا من جديد.. ولمّا أكملت السيدة »هاجر« حديثها سألناها عن سبب استبعاد فكرة العودة إلى قريتها، فأجابتنا قائلة: »إن أسرتي، وكما قلت لكم أسرة محافظة، لا يمكن أن تتقبل فكرة طلاقي بسهولة، بل لن تتقبلها أبدًا، كما لم أشأ أن أكون مصدر ألم لهم. لقد أثرت فينا حكاية السيدة »هاجر«، وعجبنا كيف أن المجتمع لا يحرك ساكنا لإنقاذ امرأة لا ذنب لها إلاّ أنها تزوجت من رجل »مثقف« وذي مكانة اجتماعية راقية...؟! "سفيان" ضحية لعقدة أبيه لقد كنا نعتقد أن الظاهرة لا تمسّ إلا الشيوخ العاجزين والنساء الضعيفات، حتى التقينا بسفيان صاحب ال 18ربيعًا، فأدركنا أن شبابا يافعين لم يسلموا أيضا من اضطهاد المجتمع.. وقد وجدنا سفيان منزويا في أحد الأزقة، ومن أول نظرة لم يبدو لنا أنه ابن الشارع، كما أدركنا بعدها أنه شاب حيّي خجول، إذ كان يتهرب منا كلما حاولنا التقرب منه، وبعد أن اطمئن لوجودنا، حكى لنا قصته: »لقد كنت أعيش حياة عادية، وكنت وحيد والداي، ومدللهما، إلى أن بدأت الأمور تسوء بينهما، ولسبب لم أعلمه حينها حصل بينهما الطلاق، فذهبت أمي للعيش في كندا، بعد أن تزوجت من رجل آخر، أما أبي فقد تغير حاله منذ تلك الحادثة، فصار يشتمني ويضربني، ويبالغ في القسوة علي، وكنت أحتمل ذلك اعتقادا مني أنها فترة عابرة، سببها جرح لابد وأن يندمل مع الزمن، إلاّ أن الأمر ازداد سوءًا حين تزوج أبي هو الآخر، وانضمت زوجته إليه في تعذيبي، وحدث ذات مرة أن خرجت من المنزل، وكلما حاولت صعود سلم العمارة كان ينتابني التردد والخوف خشية المعاملة السيئة التي سألقاها عند العودة إليه، وبقيت على حالي تلك حتى صباح اليوم التالي، وكانت تلك أول ليلة أبيتها في الشارع، ثم تلتها ليال كثيرة أمضيتها أحيانا عند بعض أصدقائي، وأحيانا أخرى هائما على وجهي في الطرقات، أفكر فيما سيكون عليه مصيري في المستقبل؟! وكنت أعود إلى البيت نهارًا، حيث يكون أبي وزوجته في عملهما، فأستغل الفرصة لأخذ بعض الأشياء من المنزل، فأبيعها، وأشتري بثمنها طعامًا، إلى أن جاء يوم غيّر فيه أبي قفل البيت، فلم أعد منذ ذلك الحين إليه أبدًا، وبينما كنت مستلقيا ذات مرة على الأرض في حيرة من أمري، وضع أمامي أحد المارّة بعض الدنانير، فكانت أول صدقة أنالها في حياتي.. وتمنيت لحظتها لو أنّ الأرض انشقت وابتلعتني، حياءً وخجلاً، ثم أدركت أنّ هاتين الصفتين لا تناسباني في حاضري وأنه لابد أن أستعد للأسوء في مستقبلي«. ثم سألنا سفيان عن سبب تغير معاملة أبيه له فجأة مع أنه ليس مذنبا في شيء، فأجابنا: »أظن أن سبب انفصالهما، هو اعتقاد أبي أن أمي تخونه، ولأن وجهي كان يذكّره بوالدتي التي أشبهها كثيرا، فقد كان يصبّ جام غضبه عليّ. ثم أكمل سفيان حديثه بزفرة أشفقنا من أن تصعد روحه معها. إنّ أمثال إسماعيل، وهاجر، وسفيان كثيرون، ونحن إن لم نتمكن من مساعدتهم، فأقل شيء هو تسليط الضوء عليهم لعلّ قلوبًا رحيمة تسمع نداءهم، أو عقولاً راجحة تتعظ من حكايتهم.