اضطرتهم الظروف إلى الهجرة، بعد ما سُدّت جميع منافذ العيش الكريم أمامهم، ولم يبق هناك خيار، ولا بد من تغيير المكان والسفر إلى مكان رأوا فيه صرح النجاة؟ دول أوروبية كثيرة تعج اليوم بشباب سافر بطريقة شرعية لأيام، ليبقى هناك على الدوام، وشباب آخر جزائري، مغاربي وعربي غامر للوصول إلى أوروبا عبر قوارب الموت، ذهب ”حراڤة” غير عابئ بالمخاطر التي قد تحفّ طريقه، فمنهم من لقي حتفه، ومنهم من نجا بأعجوبة. وتعتبر فرنسا من بين الدول التي قصدها ولازال يقصدها العديد من الشباب الجزائري بحثا عن عمل وحياة مترفة، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها هي ودول أخرى، لكن، لكي يعمل ويعيش الشاب المهاجر في هذا البلد بأمان دون ملاحقة الشرطة، لابدّ له من وثائق إقامة، وما من طريق يضمن الاستقرار غير ”الزواج” بأجنبية في حوزتها الوثائق المنشودة. الزواج الأبيض، أو بتعبير أوضح وأصح، زواج المصلحة أو الصفقة البعيدة كليا عن نية الاستقرار، الاستمرار والسكينة، كان هو الحل بالنسبة لشباب جزائري شاء القدر أن ألتقيه بفرنسا وأستطلع رأيه حول هذا النوع من الزواج الذي يرى أغلبهم أن اللجوء إليه ضرورة حتمية، لا خيارا متاحا، فلنتتبع حكاية هؤلاء الشباب.
عقدت زواجا أبيض مع أم صديقي؟؟ عبد الغني 39 سنة، عامل بأحد المطاعم في فرنسا يقول: لم أكن لأهاجر لولا ضيق السكن والبطالة، توفي والدي وأنا في سن المراهقة، نحن 4 إخوة لم ينج منا من شبح البطالة في بيتنا إلاّ أخ دخله ولم يكن يسدد نفقاته الخاصة، تردّدت كثيرا قبل أخذ قرار الهجرة بسبب والدتي التي حزّ عليّ تركها، لكن بعد أخد وردّ ومدّ وجزر، لم يبق لي غير السفر كوسيلة، فذهبت إلى فرنسا كزائر، كان هذا هو الظاهر، لكن نيتي كانت البقاء هناك، ولأنني لم أكن أعرف غير أم جاري، وهو صديقي بالجزائر، هي سيدة تدنو من الستين عاما، من أم فرنسية وأب جزائري، تحمل الجنسية الفرنسية والإقامة طبعا، فاضطررت لإمضاء عقد زواج صوري معها، أي ما يعرف بالزواج الأبيض على الورق، في البداية وجدت إحراجا من هذا الموضوع، خاصة وأنّ المرأة أمّ لأعز صديق لي، لكن، باعتبارها الوحيدة الموثوق فيها، وافقت بعد ما أعلمت هي ابنها أنّ هذا الأمر هو لتسهيل مهمة الحصول على الإقامة فقط لا غير، الواقع أنّها ساعدتني ولم تأخذ مني مبلغا كبيرا كما تفعله غيرها من الأجنبيات، إذ راعت ظروفي غير المستقرة في العمل، فتارة أجد عملا، وأبقى عاطلا لأيام، إلى أن انتهت مدة زواجنا الموثّق عبر الورق، وانفصلنا بعد حصولي على شهادة الإقامة وعمل دائم، وبقيت تلك السيدة التي عشت في بيتها كصديق وابن لمدة سنة، من أوفى صديقاتي، واليوم، بعد مرور 10 سنوات على الزواج الأبيض، ها أنا أقع في حب فرنسية مسلمة، وقريبا سنتزوج، وقد أطلعتها على كل شيء وصارحتها بما كان، فأصبحت بدورها أعز صديقة لتلك المرأة التي وثّقت معها عقد زواج صوري، كان طريقي الوحيد للعمل والبقاء هنا في فرنسا.
ظروفي الصعبة زوجتني عجوزا تفوق الثمانين؟ سمير 37 سنة، يعيش مع امرأة تكبره بخمسين سنة بعقد صوري، روى لنا حكايته هوالآخر: لم يكن مجيئي إلى هنا سهلا، لأنني عبرت البحر مع جماعة شباب اتخذ من الهجرة السرية طريقا للفرار من وضعية اجتماعية جدّ صعبة، فأنا شخصيا رغم إيماني العميق بالله، ضعفتُ وراودتني مرارا فكرة الانتحار والتخلّص من ذل حسنة الغير وتأنيب الوالد لي في كل لحظة، فلم أكن أبتلع لقمة دون أن يسمّ بدني بكلامه الجارح، يسكت سمير لدقائق ويواصل بنبرة أسى متكرّرة، ”إيه...” كانت أيام ذل صعبة أو كما أصفها دائما، سنوات ضياع مملة، إلى أن قررنا جماعة المخاطرة عبر أمواج بحر ابتلع أعز أصدقائي، وحظيت أنا والبعض ممن كتبت لهم النجاة بفرصة الوصول إلى بلد ليس لنا فيه لا ناقة ولا جمل، جئنا؛ ”ربّنا كما خلقتنا”، كما يقال، تشرّدت في الشوارع، طاردتني الشرطة، واستطعت الفرار مرارا من قبضتها، تصوري حياة الخوف والمطاردة؟ إنها حياة صعبة جدا جعلتني أقرّر اللجوء إلى الزواج الأبيض بمساعدة جزائري مقيم ومستقرّ منذ سنوات هنا في باريس، فهو من عثر لي على عجوز مسنة تجاوزت الثمانين من عمرها، وأقرضني مالا سلمتها إياه عند توثيق الزواج الصوري، ومبلغا آخر عندما تحصلت على شهادة الإقامة، والمبلغ المتبقي سأمنحها إياه عند ما ننفصل قريبا، لكن، بما أنّها عجوز مسنة، مريضة ووحيدة، لا أضنني سأتخلى عنها حتى وإن كان زواجنا صوريا وطُلّقنا، وحتى بعد تحسّن ظروفي الاجتماعية والمادية، فمن باب الإنسانية أنني سأظل أتفقدها وأرعاها، لأن الجزائري طيّب الأصل بطبعه ولا ينكر المعروف أبدا.
لُدغت من جحر الزواج الأبيض مرة وأنوي تكرار الكرّه؟! عمار 28 سنة، مهاجر بطريقة شرعية منذ 4 سنوات يقول: ”جئت إلى هنا في 2009 كغيري من الشباب، فالبطالة هي من دفعتنا للهجرة، فعندما رسمت حلم الهجرة، بدأت أسعى للحصول على المال ولم أجد غير أمي لتساعدني، أفهمتها أنني أنوي القيام بمشروع تجاري يتطلب رأس مال متواضع، ولكونها تملك قيمة معتبرة من الذهب، وباعتباري ابنها المدلّل، قامت برهن بعضه وبيع نصيب آخر لمساعدتي، وما إن حصلت على المال حتى سعيت إلى التأشيرة، ودون وداع سافرت، وكانت الصدمة قوية على أمي، إذ كادت أن تهلك لولا ستر الله، حتى أنّها لم تسامحني على فعلتي ولازالت غاضبة عليّ إلى يومنا هذا، وغضبها ألحق السخط واللعنة بي، وهذه تفاصيل قصتي مع الزواج الأبيض: عندما وصلت إلى فرنسا، كان في حوزتي بعض المال الذي منعني من التشرّد لشهر وبضعة أيام، كنت من البداية عازما على الزواج، فتعرّفت على امرأة أربعينية جميلة، وثقت فيها فقرّرنا الزواج والعيش معا، وبالفعل، تزوجنا مدنيا وسلّمتها المبلغ كليا لثقتي العمياء بها، ولغبائي، لم أقسطه إلى 3 أجزاء كما هو معمول به في مثل هذا الزواج، أي ”جزء عند الزواج”، وآخر ”عند تسليم وثيقة الإقامة”، والجزء الأخير ”عند انتهاء الاتفاقية” أي الطلاق، لتختفي تلك السيدة كليا بعد ما أخذت كل ما أملك من مال، تأكدت يومها أن ما حل بي كان بسبب نقمة أمي عليّ، كونها لم ترض عني، قالها عمار بحسرة وواصل؛ بعدها، كدت أن أتشرّد لولا دعم ومساعدة أصدقاء جزائريين ومغاربة تعرفت عليهم ومكّنوني من العمل في الظلام دون حقوق، واليوم أحاول أن أجمع المال وأعيد تكرير الزواج الأبيض مع إنسانة موثوق فيها رشّحها لي أقرب الأصدقاء، وعندما سأحصل على الإقامة، أوّل ما سأقوم به هو طلب رضا الوالدة، سأركع تحت قدميها ندما وأعيد إليها كل ما أخذته بالتحايل، وأصطحبها للبقاع المقدسة لنحج سويا، وهناك ستسامحني قطعا وأدعو الله في تلك البقعة الطاهرة أن يعفو عني خطيئتي التي دفعتني إليها ظروف معيشتي القاتمة..
تركتني خطيبتي بعد أن بلغها خبر زواجي؟ ياسين 42 سنة، مستقر بباريس حاليا، يقول: عندما أعود بتفكيري لسنوات عشر مضت، أعذر نفسي لأنّ الهجرة بالنسبة لي لم تكن خيارا، بل ضرورة انتشلتني من ظروف متدنية، صحيح أنني كنت أوفر حظ من غيري، حيث كنت أجد في بلدي أحيانا عملا كبائع في متجر، لكن وضعيتي لم تكن يوما مستقرة، ومع هذا خطبت فتاة أحلامي التي أعلمتها بنية هجرتي لتحسين ظروف حياتنا، فوافقت، سافرت فعلا ولم أجد حلا غير الزواج الأبيض للحصول على الوثائق، وهو الأمر الذي كانت خطيبتي ترفضه نهائيا، لذا تزوجت خفية دون إعلامها، ليحين اليوم الذي يُفضح فيه أمري بعد أن أخبرها أحدهم بزواجي، أقامتْ الدنيا ولم تقعدها، وفسخت الخطوبة بعد أن نعتتني بالخائن، وتزوّجت بعدها بشهرين ليتحول زواجي الصوري أنا أيضا إلى زواج حقيقي، وبقيت مع تلك المرأة إلى يومنا هذا..
كان ماضيا وانتهى؟ كريم 34 سنة، خباز في باريس، روى لنا هو الآخر قصته مع الزواج الأبيض التي انتهت بسلام، لحسن حظه، يقول كريم؛ درست في الجامعة تخصص ”علوم اقتصادية”، وهناك تعرفت على زميلة دراسة ووقعت بيننا قصة حب عفيفة وقوية، تخرجنا لنجد البطالة في انتظارنا، ومع هذا، لم أتردّد في خطبتها أملا مني في تحسّن الظروف، سنة بعد أخرى، ويبقى الحال على ما هو عليه، فقرّرت السفر لأجرّب العيش في بلد يضمن لي فرصة عمل، أخبرت خطيبتي التي اعترضت في البداية وحزّ عليها فراقي، لكنني أقنعتها في الأخير أنّ الهجرة هي الحل الوحيد لنستطيع الزواج في أقرب الآجال، فاقتنعت بالفعل وسافرتُ، تشرّدت كغيري من الشباب المهاجر واستغلني الأجانب؛ فهناك من شغّلني دون مقابل، وبعد ذل وهوان لم أجد حلاّ غير الزواج الأبيض، لم يكن الأمر هينا علي، كلّمت خطيبتي فاعترضت، لكن حين أفهمتها وحلفت لها أنّه زواج على الورق فقط قبلت على مضض، تزوجت فعلا وبقيت لأشهر مع تلك المرأة، وكانت خطيبتي تكلّمني لتطمئن أنّ الأمر على الورق فحسب ”يضحك كريم”، وبعدها ظفرت بالوثائق وأخذت حريتي ورجعت إلى بلدي الجزائر لأتزوج وأعود بفتاة أحلامي معي إلى فرنسا، هذه المرأة التي حفظت سري ولم تشأ البوح بزواجي الصوري حتى لأهلها وأهلي، وأنا اليوم أعيش في استقرار وسعادة معها ومع طفلي سارة ونسيم، واستطعت أن أفتح مخبزة أتداول على العمل فيها مع زوجتي، فهي المحاسب ووزير المالية ”يضحك” في البيت وفي العمل أيضا.. كانت هذه حكايات من عمق واقع الهجرة لشباب اضطرته الظروف إلى زواج صوري مؤقت، خرج منه البعض بسلام والآخر بندم وملامة، وشباب آخر تحوّل زواجه الصوري إلى زواج حقيقي، وآخر فقد بهجرته وزواجه المفروض عليه رضا الأهل والحبيبة، فكسب الوثيقة والإقامة فعلا، لكنّه لازال يفتقد لاستقرار النفس والجوارح ويهفو لروح مسلمة طيبة يجد معها المودة والسكينة.