يعود جون كيري وزير الخارجية الأمريكي اليوم إلى فلسطينالمحتلة، في جولة خامسة إلى المنطقة في أقل من ستة أشهر وفي حقيبته مهمة بعث الروح في مسار السلام "المحنَّط" بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ويعود كيري وسط شكوك متزايدة حول إمكانية نجاحه في مهمته، ولا شيء تغيّر من المعطيات، وأن نفس العقبات التي حالت دون نجاحه في المرات الماضية هي نفسها القائمة اليوم. والمتغير الوحيد في معطيات المشهد أن كيري عاد بتصريح سبق جولته، اعترف من خلاله "بصعوبة النزاع ومؤشرات لعراقيل كبيرة"، دون أن يمنعه ذلك من القول إن المفاوضات التي يعتزم إطلاقها بين طرفي الصراع يجب أن تنتهي إلى تجسيد مبدأ حل الدولتين. وكم مرة ومرة سمعنا الترويج لهذا المبدأ الذي كان جورج بوش الأب قد ابتدعه وقال إنه سيكون مجسدا عمليا، واعتقد الفلسطينيون مخطئين أن الفرج قد يأتي عبره. ولكن المفارقة أنه بعد عقدين من ذلك التحول في الموقف الأمريكي، مازال الوضع على حاله بعد أن رفعه جورج بوش الابن لعهدتين رئاسيتين، وها هو باراك أوباما يصرّ عليه بقناعة أنه الحل الأمثل لأعقد معضلة دولية، ولكنه سينهي عهدته الثانية، وستبقى دار الفلسطينيين على حالها. ويا ليتها كذلك، فقد أكدت المواقف والسياسات الإسرائيلية أن هذه الدار مرشحة لأن تفقد حتى أساساتها، وربما ستنهار على من فيها بسبب سياسة الرفض التي يبديها الوزراء الإسرائيليون في المدة الأخيرة، وجعلوا من الاستيطان وسيلة ناجعة لتقويض المسعى الأمريكي. والحقيقة أن سياسات أمريكا الشرق أوسطية لم تكن في يوم من الأيام حازمة في تصوراتها وآليات تجسيدها بقدر ما وقعت رهينة الموقف الإسرائيلي وأداته اللوبي اليهودي، وراحت كل الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ التوقيع على اتفاقات أوسلو تتكيف تباعا مع ما تمليه عليها هذه الجماعة الضاغطة، بكيفية حالت دون اقتناع واشنطن بموقفها من عملية السلام. ولا يمكن وفق هذا المنطق أن ننتظر شيئا من تحركات جون كيري؛ ليس تشكيكا في حسن نواياها ولكن لأنه لا يستطيع الخروج عن القاعدة الإسرائيلية وكسر طوق حصارها على السياسة الأمريكية في كل منطقة الشرق الأوسط؛ فليس من الصدفة أن تعلن بلدية القدسالمحتلة عن مشروع لإقامة 69 وحدة استيطانية جديدة في القدس الشرقية المحتلة عشية وصول جون كيري، وهي قنبلة زُرعت في طريقه من أجل إجهاض مهمته حتى قبل بدايتها، وهي نفس الخطط التي تعتمدها إسرائيل في كل مرة أرادت أن تعبّر عن اعتراضها لسياسة أمريكية تخص عملية السلام؛ بما يؤكد الحكم على جولة رئيس الدبلوماسية الأمريكي بالفشل المسبق؛ لأن إسرائيل لا تريد سماع أي حديث عن قيام دولة فلسطينية، وفق النظرة الأمريكية. وكانت التصريحات المتلاحقة لوزراء يمينيين متطرفين في حكومة الاحتلال في الأيام الأخيرة بتأكيد رفضهم المطلق لقيام الدولة الفلسطينية، رسالةً لوزير الخارجية الأمريكي، بأنه مطالَب بتغيير مقاربته وخاصة ما تعلق بفكرة حل الدولتين بعد أن أكدوا عدم الأخذ بها، وأن على الفلسطينيين ألا يحلموا كثيرا لأنها فكرة وُلدت ميتة. وحتى مواقف نتانياهو "المعتدل" بين "صقور" اليمين المتطرف الرافضين لقيام دولة فلسطين، يصر من جهته على دولة فلسطينية عدمها خير من وجودها، فقد اعترف بدولة فلسطين ولكن ليس على حدود جوان 1967. وإذا كُتب لهذه "الدولة الحلم" أن ترى النور فيجب أن تكون وفق المنطق الإسرائيلي، تتكفل فيه حكومة الاحتلال بضبط الإجراءات الأمنية، وشريطة أن تكون منزوعة السلاح ودون جيش وبدون حدود مضبوطة. أما المستوطنات فهي باقية لا يجب التفاوض بشأنها؛ لأنها أصبحت قدرا محتوما على الفلسطينيين؛ تقبلها في القدس الشريف كما في الضفة الغربية، وهو الموقف العام الذي سينتقل في أجوائه جون كيري إلى المنطقة بما يستدعي منه تكييف طبيعة مهمته؛ إما بالانصياع لوجهة النظر الإسرائيلية، وإما طرح الموقف الأمريكي وفق ما تتصوره إدارته إذا كان فعلا يريد حلحلة وضع "جامد" عمَّر قرابة ثلاثة أعوام كاملة، وهو لأجل ذلك مطالَب بأن يكف عن القول هذه المرة إنه جاء ليستمع من الأطراف المعنية والقول بدلا عن ذلك، إنه جاء ليقترح، ويريد الحصول على ردود عملية مادام أكد أنه يريد تسريع عملية السلام، ولكن ظاهر المعطيات يؤكد أن ذلك ليس لليوم غد.