صدر منذ أيام عن دار النشر «البرزخ»، كتاب بعنوان «جزائرية فحسب» للمناضلة إيفلين سفير لافالات، يتضمن شهادات عن الثورة، كتبتها المجاهدة في دفاتر ظلت محتفظة بها 60 سنة تقريبا، كما توقفت عند بعض التجارب التي عاشتها كجزائرية بعد الاستقلال. ظل يتردد أن الثورة الجزائرية كان بطلها الشعب، لكن التاريخ خطّ تضحيات أشخاص بحروف من نور؛ باعتبار أنهم ليسوا كغيرهم في درجات التضحية والفداء والعبقرية. كتاب إيفلين، حسبما أشارت إليه كاتبة مقدمته الإعلامية غنية موفق، يعيد الثقة في تاريخنا الوطني واعتزازنا بثورتنا، التي ظلت دوماً، بقصد أو عن غير قصد، مُفرغةً من قيَمها الإنسانية، بينما كان للحضور الإنساني فيها شأن عظيم، جعلها تتميز عن باقي ثورات العالم. الكتاب عبارة عن مذكرات كَتبت أغلبها في السجن من 1956 إلى 1959 بعدما أُلقي عليها القبض، لتخضع لتعذيب وحشي، ثم تحال على مصلحة الطب العقلي، التي أثبتت «اختلالها»؛ بحجة أنّ «من الجنون أن تترك فرنسية ثرية حياةَ الرغد وتلتحق بالعمل المسلّح!». تستعرض إيفلين ذكرياتها في السجن في العديد من نصوصها، منها «المنزل المربّع عام 1957» وكيف حاولت 5 مرات أن تجد لها موقعاً فيه، لتستقرّ، ثم تأخذ أصابع يدها وتعد: «واحد الطفولة، المدرسة، الثانوية، التعليم، الكشافة. اثنان النقابة. ثلاثة السكرتارية، الأفلان. رابعاً المنزل المربَّع بوهران. وخامسا السجن المركزي»، كلها ذكريات تستحضرها في اليوم الأول من السجن. إيفلين لا تحب الأرقام ولا رُعبَها، لكنها حفظت ترقيمها في السجن «3590»، إلا أنها أضافت إليه «الأميرة رقم 3590» كي لا تكون مجرد ترقيم. الكتاب جاء وكأنه ترجمة لصمت عميق، به حكايات كثيرة، ظلت مجرد دفاتر مكتوبة مخفية في بيت المجاهدة، تتزاحم فيه الذكريات والآلام مسجَّلة فيه، تسمع فيه الضجيج وتشم فيه الروائح وتستعرض فيه التفاصيل. تؤكد المؤلفة أنها تحررت قبل 1962 بمجرد أن اختارت أن تكون جزائرية، وهذه القناعة واجهت بها قاضي التحقيق، الذي رأى فيها مجرد مبالغة. إيفلين من مواليد 1927 وسط العاصمة، عائلتها كانت ثرية تقيم بالرويبة. أدركت منذ طفولتها الظلم المسلَّط على الجزائريين وتجريدهم من إنسانيتهم. تذكر أنها في القسم الابتدائي طالبتها المعلمة الفرنسية مع زملائها التلاميذ الفرنسيين، بإنجاز بحث خاص بالفضاءات العمومية، فاختارت مقهىً عربيّاً، لكن المعلمة رفضته بعنصرية وأعطتها صفراً واعتبرت البحث خارج الموضوع. تراكمت عند الطفلة الصور العنصرية يوما بعد يوم. وفي الثانوية تَشكّل عندها الوعي السياسي، فانخرطت في الحركة الجمعوية، فأسست مع زملائها في الأربعينيات مجلة «الوعي المغاربي»، كان فيها الفرنسيون والجزائريون، لكن الغالبية كانت للجزائريين (المسلمين حينها)، وارتبطت بالواقع الاجتماعي وقامت بتأطير الشباب، خاصة في العمل الكشفي. عند اندلاع الثورة قُبض على المنخرطين والمؤطرين الجزائريين كلهم رغم أنهم لم تكن لهم علاقة بالثورة، في هذه الأثناء تم القبض على دونيس المناضلة الكبيرة (مسؤولة الكشافة)، واقتيدت إلى سجن وهران، علماً أنها كانت تعمل مع شبكة وهران تحت قيادة الحاج بن علاّ. بتفاصيل عن التعذيب الجسدي والنفسي وعن الأمل في غد مستقلٍّ عن مأساة الاستعمار، تعبّر إيفلين عن انتمائها الجزائري حتى من خلال الأكل، فهناك الكسكي والمقروط وحلوى العيد بدل الشوكولا أو النبيذ أو غيرهما. تحرص المؤلفة على استعمال «نحن» في نصوصها المكتوبة قبل الاستقلال؛ نتيجة تواضعها وتكاملها مع غيرها من المناضلين، لتظهر «الأنا» مع الاستقلال، الذي قدّم فيه كل جزائري إسهامه كشخص وليس كجماعة. يصعب تصنيف هذا الكتاب؛ فهو ليس بكتاب مذكرات صرفٍ وليس كتابَ أدبٍ، بل هو في أحيان مزيجٌ بين كل هذه الأصناف. رغم الأهوال يلاحظ القارئ لمسة جمالية وإنسانية راقية، تعطي لذكريات الثورة بعداً أعمق وأصدق. تتوالى الشهادات سواء بالجزائر أو بفرنسا أو تونس أو جنيف وغيرها. تصف إيفلين بدقّة الأحداث المعيشة والتطورات الحاصلة، فترصد جرائم «اليد الحمراء» و»المظاهرات» وغيرهما. يتضمن الكتاب أيضا الكثير من القصائد الوطنية الرائعة كتبتها وهي تعيش في خضمّ الثورة، منها قصيدتا «حرية» و"الاستقلال". وتقول في «الاستقلال»: «يأتي غدا 5 جويلية 1962، غدا هذا اليوم، تأتي سنوات طويلة وجميلة، ويأتي الرقص». يوجد في الكتاب مسار المجاهدة بعد الاستقلال؛ أي من 1962 حتى 1990 سنةِ تقاعدها، فقد ساهمت في وضع أسس المنظومة التربوية وإثرائها عام 1967، وكذا في تأسيس وزارة العمل، وناضلت من أجل الضمان الاجتماعي للعمال، إلى جانب نضالها في الهياكل القاعدية لحزب جبهة التحرير الوطني. تقف إيفلين عند مرحلة العشرية السوداء وكيف تصدّت لها، والألم الذي انتابها عندما رأت التهديدات التي قد تنال من الجزائر ومكاسبها التي تحققت بفضل الثورة وتضحيات أبنائها. كما تستعرض مراسلاتها مع أصدقائها وبعض الذكريات، والحضورَ القويَّ لزوجها الإعلامي الراحل عبد القادر سفير. الكتاب ضم أيضا صورا فوتوغرافية كثيرة لإيفلين منذ طفولتها بين أحضان عائلتها، الثورة وحتى الوقت الراهن. بعضُ الصور تُبرزها كجزائرية ترتدي اللباس التقليدي، وتقعد في جلسات نسائية حميمية تجمعها برفيقات النضال. تشبّه الكاتبة نصوصها بعملية النسيج؛ فالحياة نسيجٌ من الأحداث، نسيجٌ يتطلب المهارة والشجاعة، وفانتازيا تعطيه بصمةً خاصةً. إنها المناضلة الشاعرة صاحبة الرؤية الصادقة لما جرى، هدفها الأول والأخير هو الجزائر، وكفى بذلك هدفاً.