نحن نعيش نشوة الفرح، نسترجع الذكريات على تلك البنايات الملطخة بالدخان والدم، أصوات انفجار القنابل، زخات الرصاص، رجال المظلات يقيمون الحواجز، يجوبون الشوارع وأزقة القصبة الضيقة، قصص ترويها القصبة كالأحجيات غير أنها واقعية.. "يمّا العفريتة" فاطمة الزهرة سليمي وجه من الوجوه الجزائرية التي لم تكن لها ملامح إبان الثورة التحريرية، كلمات رامزة، صورة بلا صوت "الحايك الأبيض والعجار" وسط جمهور اختلطت فيه الملابس الأوروبية بالسراويل العربية العريضة والطرابيش الحمراء وجلسات قرفضائية على دكة الدكاكين الضيقة، العيون التي تتفحص المارة وتحقق في هويتهم من وراء هذه التراكمات التي مازالت ترويها سلالم القصبة الحلزونية وأزقتها الضيقة.والأبواب العيتقة والسطوح المتلاصقة المطلة على جبال الزبربر والأربعاء والواجهة البحرية الشرقية من هناك كانت تطلع الشمس لتنسج قصة مثل هذه القصص من نهارات الانتصار. «يمّا العفريتة" وجه بلا ملامح هي قصتنا، بل هي القصيدة التي لم تكتب بعد رغم أنها كتبت قصائد للثورة وللمجاهدين وللأمجاد، وغنت بصوتها العذب وهي غضة طرية العود في الكتاتيب تخط بقلم القصب على لوحها الأبيض سورة "الفتح". لم تكن لنا عنها صورة ذهنية واضحة، لم نعد أسئلة تقليدية، بل تركنا اللقاء يجري بعفوية والكلام عن الثورة والقصبة والشعر والفرح والمآسي التي عرفتها الجزائر وعايشتها المقاومة الزهرة سليمي في مدينتها البيضاء القصبة، فمن هي هذه السيدة المقاومة؟ السيدة الزهرة سليمي ابنة الشهيد سليمي محمد وهي من مواليد 07 جويلية 1937 بمدينة القصبة، وفي هذه المدينةالجزائرية الجميلة العتيقة قضت فاطمة الزهرة سحابة طفولتها ومن ثم التحقت بالكتاتيب لتتعلم القرآن الكريم على يد الشيخ محمد العيد بوحنة إمام "الجامع الكبير"، كان سنها آنذاك سبع سنوات، تقرأ القرآن على اللوحة وتخط بقلم القصب السور والآيات القرآنية. سألناها عن طفولتها وعن الشيوخ الذين قرأت عنهم القرآن، فذكرت الشيخ العيد بوحنة، أما الشيخ عبد الحليم فقد نعتته بالقسوة المفرطة على الأطفال، وكانت المدرسة هي دار لمواطن تونسي من الطريقة العلوية يدعى "علي التونسي" بسوسطارة. كما درست في مدرسة "الشبيبة" وهي مدرسة حرة من تبرعات المواطنين وقالت "كنا نتعلم فيها القرآن الكريم، وكذا مدرسة "شامة" (حسب نطق المواطنين وهي "الشيماء")، قرأنا أيضا القرآن الكريم والأناشيد الوطنية وأول نشيد كنا ننشده نشيد "نداء الجزائر" النشيد الرسمي لحزب الشعب الجزائري، "كان أبي -رحمه الله- يدعم المدارس التي تعلم القرآن الكريم وكان إخوتي يتعلمون القرآن وكل من قرأ القرآن الكريم أصبح فدائيا مثل أرزقي باسطا الذي كان وطنيا كبيرا أخته غنية كانت تقرأ معي عند المعلمة خضرة بوفجي، كنا نتعلم الفقه، النحو والتاريخ والجغرافية". «هل تتذكرين شيئا عن الحرب العالمية الثانية؟"، تقول "كان عمري تسع سنوات سنة 1945 وحين بدأت الحرب كنت صغيرة إلا أنني مازلت أتذكر القصف الألماني الذي كانت تشنه طائراته على مدرسة بسوسطارة اتخذها الجيش الفرنسي ثكنة له، أتذكر أيضا الحزب الوطني، الكشافة الإسلامية، أخي يوسف سليمي كان يكبرني بست سنوات خرج في مظاهرة الثامن ماي 1945 مع أبناء الشرقي وباسطا عمر، وكان بوعلام الشرقي يحمل العلم وبدأت المظاهرات من القصبة ثم نزلت المسيرات إلى جامع "اليهود" وكانوا ينشدون نشيد "فداء الجزائر" كنت استمع لأبي وهو يتحدث عن الأماكن التي شهدت المسيرات والأحداث والتقتيل .. أبي -رحمه الله- كان تاجرا وكانت عنده ورشة خياطة في "ري ميدي"، يشتغل فيها من تلاحقهم السلطات الاستعمارية والبوليس الفرنسي، وكان يزور والدي عيسى كشيدة الذي كان يأتيه العربي بن مهيدي ومحمد بوضياف، الذي كان بدوره جارا لنا في القصبة. «والدي -رحمه الله- كان يخبرني بأسرار الإعداد للثورة، حيث كانوا يجمعون السلاح والمال مع لزهر شريط ومحمد برجب كما ذهب والدي في رحلة إلى الحدود الشرقية (تونس)، حيث التقى بالأزهر شريط وعندما عاد من سفرته إلى الجزائر أخذ كل أمواله ولم يترك لنا إلا القليل، إذ كانوا يعدون للثورة بشراء السلاح وجمع المال اللازم، ثم تغيب والدي -رحمه الله- مدة 15 يوما، حيث ذهب في رحلة ثانية الى الحدود الشرقية". فاطمة الزهرة تروي أن والدها كان يشغل النساء في البيوت من خلال ماكينات الخياطة لصناعة الملابس، وفي المرة الأخيرة أخذ كل ماعنده من مال فتذكرت حينها نشيد "فداء الجزائر" ونشيد "موطني". سألناها "يعرف أنك ممن ألف الأناشيد الوطنية فكيف كانت بدايتك مع الأناشيد؟"، فردت قائلة: «أول نشيد كتبته كان سنة 1953 ويحمل عنوان "يا رسول الله"، وكنا حينها نحتفل باختتام السنة الدراسية بعرض مسرحية تحت عنوان "إسلام عمر" في سينما "جمال" الكائنة بشارع "دبيح الشريف" في سوسطارة، وقد استأجرها أبي خصيصا لهذا الحفل ولعرض هذه المسرحية فأنشدت حينها أول نشيد من تأليفي: يا رسول الله ^^^ يا حبيب الله بابن عبد الله ^^^ يا رسول الله قام له جبريل ^^^ بالوحي والتنزيل ذاك رسول الله يا حبيب الله" وطلب مني والدي -رحمه الله- عندما خرجت من المسرحية أن أكتب قصيدة وطنية -وتضيف- "كان والدي -رحمه الله- مسؤول قسمة في القصبة وجعل من البيت مركزا للثورة، وكان ممن يترددون على المركز رشيد فركاشي من كشافة تيزي وزو كما كان الفدائيون يأتون بالسلاح عند الانتهاء من عملياتهم وكنت أضع الأسلحة في بئر بيتنا، ومن الأسلحة "مات 49" والقنابل، وكان من الفدائيين عثمان رمال الذي استشهد مع دبيح الشريف في أكتوبر سنة 1955م، وأذكر أنه جاءت مجموعة فدائية من الشرق (تونس) تضم لزهر شريط، رشيد فكراش وكذا عبد القادر الملقب بالذيب، والذي عندما توكل له عملية كان لا يخرج من بيتنا للتمويه، وكنت أحمل السلاح وأنا مرتدية "الحايك" ثم أضع المسدس في ظهر الفدائي، وقلت في ذلك: دار يادارنا ^^^ يا مأوى العظام أتاك الشهيد^^^بطل من الأبطال عثمان ورفاقه ^^^ فاستشهدوا من أجل هذا الوطن" وقلت أيضا: «باسم بلادي أغني على صوت شعب أبارك وأهني تحيا الجزائر باسم الكفاح المرير باسم شعب عانى المرّ والويل" وممن كانوا يفدون على بيتنا العقيد أوعمران وكنت أنا من يفتح الباب دون أن يراني متسائلا كيف انفتح الباب ومن فتحه؟! ومن ذلك الوقت لقبوني بالعفريتة، وأذكر أنه جيء بأحد الجرحى إلى البيت وكان من المسعفين الطبيب عبد المجيد ياكر الذي كان يعالج المواطنين والمناضلين". «وهل تتذكرين يوم نسفت الدار التي كانت تختبئ بها حسيبة وعلي لابوانت والطفل عمر؟"، قالت كانوا يختبئون في حيّنا، بيت بوعلام لفلاس، (عائلة ميساوي)، اهتزت الدار، أتذكر أن "محمود القبقاب" الفدائي من زنقة بوعكاشة، تبعته امرأة لغاية أن دخل الدار، وعندما خرج تبعته أيضا وفي تلك الليلة وقعت الواقعة وهذه المرأة هي التي وشت بالفدائيين حسيبة، علي وعمر". «وفي سنة 1957 ألقي علي القبض -تقول فاطمة الزهرة- وأخذت "لساحة الشهداء" (لاري باريس) في دار يشغلها رجال المخابرات (المكتب الثاني) وكان والدي قد ألقي عليه القبض من خلال وشاية وعذّب العذاب الشديد وتحت التعذيب والصعقات الكهربائية يقول لهم "العفريتة ويمّا" وكانوا يطلقون عليّ اسم العفريتة، حيث كنت أرى كل من يأتي إلى البيت من حيث لا يراني، وكانوا لايعرفونني ولا يسمعون حتى صوتي ومنهم العيد أوعمران، وكنت عندما أفتح "باب الفصيل" يسأل أوعمران أبي قائلا "إننا ندخل عندما يفتح الباب لكننا لا نرى من فتح الباب" وعندما ألقي علي القبض وأخذت إلى التحقيق كان المحققون يقولون لي أين العفريتة وأين "أمّي" لأن والدي -رحمه الله- كان يناديني بأمي لأنه أطلق علي اسم والدته، بقيت في الحجز نصف يوم بعد أن سألوني "أين يمّا" و«العفريتة" طلبوا مني نزع ملابسي وكان من طلب مني ذلك طبيب فرنسي وضربني ليدي وقدمي فقلت للطبيب أتعرف الله؟ فقال نعم أعرف الله وقرأت القرآن، قلت ما تطلبه حرام لا يرضاه الله فتركني وأحسست أن عينه "اغرورقتا بالدموع". واستأنفت "والدي سليمي محمد ألقي عليه القبض في أفريل 1957 واستشهد تحت التعذيب في سجن سركاجي ثم نقل جثمانه الطاهر إلى مصلحة حفظ الجثث بمستشفى مصطفى باشا في نوفمبر سنة 1958 وأخبرنا عن استشهاده أحد المعتقلين الذين كانوا معه في السجن، حيث كان يعالج في المستشفى". كما تضيف السيدة فاطمة الزهرة أنها شاركت في مظاهرات 11 ديسمبر 1960 وخرجت بالعلم الوطني وهي تنشد "كلنا للقطر فداء". وأوضحت أعددنا لهذه المظاهرة وكنا نطرق على الأبواب ونخبرهم بالمظاهرة ليخرجوا من أجل المشاركة فيها وقد استمرت مظاهرات 11 ديسمبر 5 أيام في الليل والنهار وكنا نسير إلى شارع لوني رزقي قرب ثانوية الأمير عبد القادر حاليا وصعدنا إلى "باب الجديد" وكان المتظاهرون كثيرين من شيوخ وعجائز ونساء ورجال وأطفال وشباب وكنت أحمل العلم في الصف الأول وقد أمسكني الجنرال بيجار من كتفي فانسلخت "الفيستا" من على كتفي فأخذها في يده وكانت قوات الشرطة والمظليين تطلق علينا القنابل المسيلة للدموع حتى عدت لا أستطيع الرؤية، الطرق كانت مغلقة بالأسلاك الشائكة، أما الناس فقد أخرجوا أثاث منازلهم ووضعوه كحواجز، من خزانات وأفرشة وغيرها". «هناك من سقط شهيدا تحت أقدام المتظاهرين، وهناك من تم اعتقالهم واختطافهم من قبل البوليس الفرنسي واستمرت المظاهرات خمسة أيام كاملة بليالها وقلت حينها شعرا: «أين أنت أيها الماضي القريب أيها الساكن روحي خالدا أنت الحبيب أنت مني وأنا منك أبدا عنك أحيد يشهد الزمن عنا وأرض المليون شهيد أين أنت وأين أنا من ذاك الماضي القريب" قلت هذه القصيدة في 19 مارس 1962 وقد ألفت أزيد من أربعين قصيدة وقلت أيضا: «أقصفي يا سماء ^^^واحدقي ياقيود نحن بنوا الأولى^^^نحمي أرض الجدود ثرنا لنحمي الوطن^^^ ونطرد عنا الشجن". وكان يتغنى بهذا النشيد المجاهدون في الجبال. هذا الوجه الذي رسمته الثورة الجزائرية في أحد بيوتات القصبة كان وجها بلا ملامح وهو جه "يمّا العفريتة" فاطمة الزهراء، هكذا كانت حرائر الجزائر بهذه الشجاعة والتضحية تنسجم خيوط النصر من جراح الأباء ودموع الأمهات ودماء الشهداء لترفع راية النصر خفاقة يوم 05 جويلية 1962، معلنة قيام الجمهورية الجزائرية والتي نحتفل اليوم بعيدها الخمسين.