تربع الموسيقار أحمد مالك على عرش الموسيقى التصويرية في الجزائر، تاركا بصماته العملاقة في سجل الموسيقى الجزائرية، في رحلة دامت قرابة الخمسة عقود انتهت به في فراش المرض الذي لم يرحم عطاءه وماضيه. من يستمع الى موسيقى أحمد مالك يربطها على الفور وبدون تردد، بموسيقى الراحل محمد اربوشن وهذا لفرط التشابه الذي يجمع العملاقين، وتعرف روائع أحمد مالك أكثر مما يعرفه الجمهور، فقد حاول هذا الفنان العمل في صمت ولم يسع طوال مسيرته الى أية بهرجة أو مكاسب مادية. ولد الفنان أحمد مالك في 6 مارس سنة 1931 ببرج الكيفان من عائلة عاصمية المنشأ، التحق بالمعهد الموسيقي سنة 1942 ومكنته هذه الفرصة من تعلم العزف على آلة الناي (الناي الجانبي) واختص أيضا فيما بعد في العزف على آلة البيانو والأكورديون. مع حلول سنة 1947 انخرط أحمد مالك في الجوق العصري للإذاعة تحت قيادة مصطفى اسكندراني، كما نشط في فرقة موسيقية ل "أميدي كربونال" الذي كان يشجع المواهب الجزائرية، كما كان يتعامل مع بعض الفنانين والفرق الجزائرية من خلال عمله كموزع موسيقي. لفرط موهبة أحمد مالك التي سرعان ما انتشرت في الوسط الفني، استدعاه الراحل حداد الجيلالي ليضمه الى فرقته، وكان أحمد مالك يعزف على آلة الأكورديون مثله مثل حداد الجيلالي، ومع بداية فترة الخمسينيات أسس أحمد مالك فرقته الخاصة، وتشابه خطه في الموسيقى مع أعمال الراحل محمد إربوشن. بعد الاستقلال وجد أحمد مالك نفسه محتكرا لنوع الموسيقى التصويرية، ولم يكن له منافسون ما عدا بعض الملحنين الفرنسيين الذي لحنوا لبعض السينمائيين الجزائريين، كأحمد راشدي ولخضر حامينة، إضافة الى فيلم "معركة الجزائر". هكذا واصل أحمد مالك عطاءه الذي أخذ ينمو سنة بعد أخرى، واختص الفنان في تلحين موسيقى الأفلام والحصص واللقاءات وغيرها، وكان يتحمس لكل انتاج جزائري. مع بداية الثمانينيات أدخل مالك تقنية الموسيقى الإلكترونية في أعماله بلمسة خاصة به، وأنشأ استديو خاصا في بيته لينجز فيه أعمالا كثيرة أضافها الى رصيده الحافل، كما شارك أحمد مالك في عدة ملتقيات دولية في كندا واليابان وغيرهما، باعتباره خبيرا في مجال الموسيقى، واحتك مع كبار النقاد والمؤرخين السينمائيين العالميين. من روائع أحمد مالك، موسيقى فيلم "عطلة المفتش الطاهر" (1972)، "ليلى وأخواتها" (1977)، "المنطقة المحرمة" (1972)، "الفحّام" (1972)، "عمر تلاتو" (1976)، "بلا جذور" (1976)، "حواجز" (1977)، "تشريح مؤامرة" (1977)، الى جانب "مغامرات بطل" (1978)، "سقف وعائلة" (1982) "زواج موسى" (1982)، "امبراطورية الأحلام"، "الرجل الذي ينظر من النافذة"، "رحلة شويطر"، وأشهر عمل قدمه للتلفزيون كان "الحريق". كما عمل الفنان مع التونسيين من خلال فيلم "عزيزة" سنة 1970. يؤكد الباحث الموسيقي عبد القادر بن دعماش، أن أحمد مالك كان لا يكف عن الإبداع، فهو مجتهد ويعمل بلا توقف وكأنه لا يشعر بما يشعر به الآخرون من تعب وكلل، الى درجة أنه كان يؤلف عملا موسيقيا في ليلة واحدة، وهذا لا يعني الرداءة، بل كانت كل معزوقة رائعة بحد ذاتها. كان أحمد مالك موجودا في كل مكان وفي كل زمان يفرض عمله على الجميع، لذلك كان يظهر بقوة على الساحة، تميز أيضا بإحساسه المرهف، فلم يؤلف تلاحينه بشكل آلي وإنما يغمسها في هذا العمل أو ذاك. أحمد مالك رجل مبادئ فهو يرفض الوصولية، ولم يجن الثروة من أعماله، لأن هدفه لم يكن ينحصر في المكاسب المالية... وسجل قرصا مضغوطا في باريس وآخر في تونس مع نهاية الثمانينيات، يتضمنان مجموعة أعماله. كرمت رئاسة الجمهورية أحمد مالك في 5 جويلية 1987 من خلال تكريم جل أعماله، كما كرم مؤخرا من قبل التلفزيون في الليلة الخامسة من الفنك الذهبي. أحمد مالك يرقد اليوم وحيدا على فراش المرض، لا يقوى على الحركة ولا حتى على الحديث، يصارع في صمت قدره القاسي، الذي لم يرع رهافة الفنان عنده، وتحرص على خدمته ابنته وتحاول ضمان الراحة الكاملة له، ربما لذلك تمنع عنه الزيارة، وهي التي رفضت الرحيل مع أختها وأمها الكندية، التي تزوجها الوالد أحمد مالك سنة 1970، لتهجره أثناء مرضه الذي كبله في محيط لا يتعدى جدران شقته بشارع بكين بالمرادية، فتحية إجلال لهذا العملاق في عيده الوطني، ولا تزال الأذن تعشق قبل العين أحيانا.