ليس صحيحا أن مصر هي التي كانت دوما تضخ إلى العالم العربي الفن والمبدعين وأهل الفكر والرأي، إذ برهن التاريخ بالدليل على أن مصر بنت اسمها الفني والثقافي على أكتاف بعض العرب بمن فيهم الجزائريون الذين اقتحموا الساحة المصرية... الظاهرة بدت صحية حركتها المشاعر المشتركة من وطنية وتراث مشترك وفن قائم على النضال وإثبات الهوية العربية في ظروف كانت فيها جل الدول العربية تئن تحت وطأة الاستعمار، الفنان الجزائري كان حاضرا ليس من فرط وطنيته، وهذا شيء مطلوب، لكن بحكم قدراته الفنية التي أهلته لأن يقتحم ملعب المستعمر ذاته، فما بالك بالساحة الفنية العربية. لعل من رواد هذا "الاقتحام" الموسيقار الجزائري الراحل مصطفى اسكندراني، الذي قاد جوقه الجزائري الى مصر للتسجيل ومرافقة الفنانة الراحلة إسمهان في بداية الثلاينيات وهذا لم يكن بالأمر الهين حينها، وكان ذلك عرفانا للموسيقييين الجزائريين الذين إضافة الى إتقانهم عزف الموسيقى الكلاسيكية العالمية والجزائرية، كانوا أيضا قادرين على عزف النوع الشرقي بجدارة رغم أنهم لم يتكونوا فيه. اسكندراني - رحمه الله - كان قد تعامل كثيرا وبشكل مميز مع الفنان فريد الأطرش، إضافة الى تعامله مع العملاق المصري عبد المطلب الذي كان يحبه كثيرا، زد على ذلك الإنجازات الموسيقية التي حققها اسكندراني مع الفنان المصري عبد الله شاهين، حيث أنجز معه مشروعا في موسيقى المقارنة، فقدم معزوفات مشتركة للموسيقى الجزائرية والموسيقى الشرقية. إسم آخر لمع في سماء الفن هو الراحل رضوان بن صاري، الذي نبغ في الغناء الشرقي تماما كما نبغ في الغناء الأندلسي (مدرسة تلمسان) ليحيي على خشبة المسرح بالقاهرة حفلا مشتركا غنى فيه مع أم كلثوم في ثلاثينيات القرن الماضي. وترك فنانون جزائريون آخرون أسماءهم في سجل الفن العربي منهم الفنان الراحل وراد بومدين المتوفى سنة 1964 والذي سجل سنة قبل وفاته مع الراحل محمد عبد الوهاب وأدى مع جوق هذا الأخير نشيدين، كما تعامل الفنان المصري محمد قنديل كثيرا مع فناني فرقة جبهة التحرير الوطني وقدم معهم روائع خالدة. أسماء أخرى اقتحمت الساحة الفنية المصرية بجدارة حتى السنوات القليلة الماضية، إلا أن الأسماء التي فرضت نفسها مع جيل العمالقة في مصر كان نجاحها بطعم آخر والتي يعرف الدكتور والباحث الموسيقي نصر الدين بغدادي عنها الكثير. يؤكد هذا الباحث أن التواجد في الميدان الفني والتمثيل لم يكن أقل شأنا، وذلك منذ أن وطئت أقدام جورج الأبيض أرض الجزائر، حيث تعامل هذا الأخير مع رواد المسرح الجزائري وانبهر بفنهم ودعاهم الى مصر حيث أنجز معهم تمثيليات مشتركة لم تكن كلها ناجحة، لكنها أسست لتعاون دائم استمر مع الراحل يوسف وهبي الذي زار الجزائر مع فرقته مرارا وتكرارا. لعل من بين رموز المسرح الجزائري ممن أثبت حضورهم في الوسط المصري، الراحل محمد الطاهر فضلاء، الذي أسس سنة 1947 فرقة "هواة المسرح العربي" (أشهر أعمالها "الصحراء") والتي يقول عنها الدكتور عبد المالك مرتاض في كتابه "الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق" ما يلي : "رحلة فرقة" هواة المسرح"" للتمثيل إلى المشرق العربي بهرت المشارقة، هؤلاء الذين كانوا ينظرون الى الجزائر والمغرب العربي نظرة تعال وأستاذية". مع الاشارة الى أن يوسف وهبي طلب من فضلاء وفرقته الإقامة معه في مصر للعمل، لكنه رفض في وقت كانت الجزائر (بداية الخمسينيات) في أمس الحاجة إلى كل أبنائها. توالى هذا التواصل في كل المجالات، فالأزهر الشريف مثلا وعبر ألف عام من الوجود، ترأسه 6 أئمة جزائريين، وزار الجزائر أبرز مثقفيها وكتابها وعلى رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي حضر مراسيم تسلمه إمارة الشعر من الراحل محمد العيد آل خليفة، كما زارها الزعيم المصري محمد فريد الذي وقف شجاعا مع الشعب الجزائري في بداية القرن العشرين وهاجم فرنسا بمقالاته، مما استوجب طرده من الجزائر لكنه كان يصر على دخولها خلسة من الحدود حبا لشعبها البطل. في الامتحان يكرم المرء أو يهان قابلت الجزائر دوما العرفان بالعرفان والأخوة بأخوة أقوى وأمتن، لكنها في المقابل لا تتسامح مع من يستهين بها، والمعيار في كل ذلك الوطنية أولا وأخيرا. فالجزائر كرمت فوراستقلالها أي في الفاتح نوفمبر 1962، رموز الفن المصري، منهم الراحل عبد الحليم حافظ الذي أحبه الجزائريون الى حد الجنون، خاصة عندما ساند الثورة الجزائرية، وكرمت محمد فوزي الذي بكى دما عندما لم يستطع حضور هذا التكريم بسبب كونه طريح الفراش وفي أيامه الأخيرة، وغيرهما كثير وكثير ممن اعتبروا الجزائر قضيتهم الوطنية وممن أحبوا الجزائر وقدروها كالراحل عبد الوهاب، الذي أثنى على جمهور الجزائر كونه ذواقا يستمع بهدوء ويطرب للموسيقى الأندلسية والفلامينكو. ... لكن الجزائر لم تتسامح وأظهرت ذلك علنا مع من زلت أقدامهم في الخطيئة وعاقبتهم في تحضر، الأمر الذي جعلهم يخجلون منها إلى آخر أيامهم رغم حبهم لها وحبها لهم كالراحل فريد الأطرش رحمه الله، الذي رماه الجزائريون بالطماطم بعد زلة لسان قالها "أشكر السلطات الفرنسية على استضافتي"، في وقت كانت الجزائر تمقت كل ما هو فرنسي، كما أدارت الجزائر ممثلة في زعيمها الراحل هواري بومدين ظهرها لأم كلثوم، حيث رفض الهواري استقبالها وهي من هي، لمجرد أنها لم تقف مع الثورة التحريرية ولم تسجل لها عملا واحدا.