إحياء للذكرى التاسعة والعشرين لوفاة عميد أغنية الشعبي الحاج محمد العنقا الموافقة للثالث والعشرين من نوفمبر، تنظّم مؤسسة "فنون وثقافة ّلولاية الجزائر ابتداء من 22 نوفمبر الجاري قعدات شعبية بمشاركة 29 فنانا سيحيون حفلات في مختلف الفضاءات متعدّدة الوسائط والمراكز الثقافية ودور الشباب· وستكون هذه الوقفة فرصة للإشادة بالتراث الوطني وبعبقرية هذا المعلم الذي كتب اسمه بحروف من ذهب في تاريخ الموسيقى حيث ترك بصماته على هذا النوع الموسيقي الذي طبع وما زال يطبع العديد من الأجيال، فهو الحاج امحمد العنقا "آيت وعراب محمد ايدير حالو" من اسمه الحقيقي، والذي رأى النور في 20 ماي 1907 بشارع"تومبوكتو" بالقصبة العتيقة التي برز من رحمها أسماء لامعة في مختلف الفنون، و"الشعبي" على وجه الخصوص··· وقد مرّ بثلاث مدارس قبل أن ينتقل إلى الحياة العملية وعمره لم يتجاوز أحد عشر عاما، وبتوصية من "السي سعيد العربي" العازف المعروف ضمن فرقة "مصطفى الناضور" تحصّل امحمّد على امتياز يسمح له بحضور الحفلات التي كانت تحييها الفرقة، ليواصل مساره الفني كموسيقي ضمن فرقة "قهيوجي" الأخ غير الشقيق للحاج مريزق· وبعد انتقال الشيخ الناضور إلى الرفيق الأعلى في 19 ماي 1926 بشرشال، حمل امحمد العنقا المشعل بقوة وبخطى ثابتة وجلس مكان شيخه في إحياء الأعراس العائلية والحفلات، وعمل على بقاء واستمرارية الأغنية الشعبية، فجمع حوله ألمع الموسيقيين وكوّن فرقته، دون أن يقطع صلته بالبحث والعلم، إذ واصل تلقي القواعد الصحيحة على يد الشيخ "سيد أحمد وليد لكحل"، وكانت سنة 1928سنة حاسمة التقى خلالها العنقا بالجمهور العريض الذي احتضنه والتف حوله لما وجد فيه من طرب، تألّق وأصالة· وبعد هذا الاحتضان القوي والانتشار الكبير وسط العاصميين سجّل الحاج العنقا 27 أسطوانة من نوع 78 لفة في "استوديوهات كولومبيا"، وشارك في تدشين النواة الأولى لإذاعة الجزائر، الشيء الذي زاده انتشارا و صيتا في مختلف أنحاء الوطن وحتى خارجه· وفي أعقاب اندلاع الحرب العالمية الثانية، قاد الحاج امحمّد العنقا الفرقة الموسيقية الشعبية الأولى للإذاعة، وكمكلّف بتعليم "الشعبي"، ولج عام 1955 إلى المعهد البلدي للموسيقى وتتلمذ على يديه من سيحملون مشعل "الشعبي" ويحافظون عليه مثل "عمر العشاب"، "احسن السعيد"، "رشيد السوكي" ومن بعدهم "حسيسن"، "مهدي طماش"، "كمال بورديب" و"عبد القادر شرشام" وغيرهم· "الكاردينال" الذي يعدّ نقطة انعطاف هامة في مسار الموسيقى الجزائرية، علاوة على أنّه مؤسّس الفن الشعبي بمفهومه الواضح المعالم المستقل عن الفن الأندلسي الكلاسيكي، تميّز بحفظه للقصائد إلى درجة الانصهار التام في اتحاد كلي وتناغم نادر وفريد، والتي صنعت عبقرية المبدع المتجلية في "لحمام لي ربيتو" و"سبحان اللّه يا لطيف" · صاحب "الحمد للّه ما بقاش استعمار في بلادنا" الذي تربّع على عرش الأغنية الشعبية دون منازع، وتفرّغ للبحث والدراسة المعمّقة في خصوصيات الأغنية الشعبية، فأفضى عليها روحا إبداعية وأدخل تجديدات على الأغنية، وأثرى الموروث الشعبي ل"بن مسايب" و"بن سهلة" بلمسات من الجاز، فكان البيانو جنبا إلى جنب مع الدربوكة والطار، و"التشيلو" إلى جانب المنديل والقانون والكمان وكذا القيتار· خمسون عاما من العطاء الفني والإبداع الشعبي انطفأت كما انطفأت شموع وستنطفئ أخرى، أضاءت ولا تزال تضيء الدروب الغنائية الجزائرية، فكانت نهاية مسيرة حافلة بالأعمال المتميّزة الراسخة في القلوب والأذهان على مرّ العصور وباختلاف الأجيال. *