صدر مؤخرا للشاعر أحمد بوزيان، ديوان في الشعر الشعبي بعنوان ”إنتفاضة القوافي”، يحمل روح التقصي لكلّ اللمحات الشعرية حيثما كانت في التراث أو في الحداثة دون الالتفات إلى التصنيفات المفتعلة فهو يرى نفسه موجودا أينما وجد الشعر، ويحاول بوزيان في هذا الديوان المقروء والمسموع أيضا إشراك المتلقي في عملية بناء القصيدة من خلال لغة جديدة تشدّ ذهنه ووجدانه. كغيره من الشعراء يحاول بوزيان ترويض اللحظات الهاربة والقبض عليها كي لا تفلت ويحاول أيضا تدجين اللمحات الشاردة من خلال اللعب على اللغة وإخضاعها لسلطان الشعر وحده، ويستحضر هذا الشاعر الماضي ليتجاوز الراهن ويستشرف المستقبل، كي يراسل بين الأزمنة والمعاني ومختلف المفاهيم التي تدخل في مواجهة مباشرة بإشارة منه. يرى بوزيان أنّ الشاعر حجّ على اللغة يغير المواقع ويخترق المنطق ويجوز له ما لا يجوز لغيره فهو يعلو على اللغة، فيعرّفنا بما لم نكن نعرف أو يعيد تعريفنا بما كنا نعرفه وكأنّنا لم نعرفه، ومن يطالع هذا الديوان يظنّ أنّ الشاعر شيخ عارف بالله في خلوته مع تجلياته وأحواله ومع عشقه الصوفي للحضرة المحمدية. الشاعر وكأنّه يتعاطى تلك الخمرة الروحية التي تفنيه عن الوجود لتصله برب الوجود ويغيب عن الخلق بحضرة الحق قطع عالم الوجودية ليدخل عالم الأنوار ويذوق مذاق التجليات في مدارج العروج ومن عالم الفناء إلى عالم البقاء، ويدرك المتلقي أنّ محبة النبي صلى الله عليه وسلم انسكبت في قلب بوزيان فزادته عشقا وتفانيا لا يدركه إلاّ من ذاق فعرف أو كوشف فغرف. لهذا الشاعر القدرة على اللعب باللغة على مدارات التجلي والكشوفات إذ يحوّلها إلى صديق حميم يدجن بها الغرابة لتصير ألفة على نحو مفارق لم يألفه الشعر الشعبي الجزائري المعاصر، يظهر الشاعر بوزيان متبتلا في محرابه لكنه يظهر في مشاهد أخرى من نفس الديوان عاشقا ولهانا لغانية فتنته في لقاء عابر، ويظهر أيضا الرجل الغاضب المحتج على راهنه، وفي أحيان أخرى نجده ذلك الحزين المتألم أو ذلك الطاووس المتباهي بنفسه. يحرص بوزيان على حضور الحكمة في شعره لذلك اختار لها لغة أصيلة فبدت من وحي شيخ هرم عاش الدنيا بطولها وعرضها وبدت وكأنّها من نظم أحد فطاحلة الشعر الشعبي من القرون الخوالي. من جهة أخرى، يؤكّد بوزيان أنّ الشاعر هو الناطق الرسمي للحياة وللمجتمعات يبرز الجميل والقبيح بلغة عاكسة للواقع ومؤثّرة في الوجدان الجماعي لأنّها تحمل هما مشتركا أو أملا جامعا. لهذا الشاعر براعة تدجين اللغة وإفراغها من الاستعمال اليومي المبتذل إلى الوظيفة الشعرية التي تجعلها تنبض بمعان جديدة، إنّ هذه المهارة في اللعب باللغة يعيد صياغة الصورة فتبدو صادمة للمتلقي فيقبلها أو يرفضها لكنها حتما ستثيره وتعيد إليه تلك العلاقة الغائبة بين عالم الرؤية وعالم التصور، بوزيان حريص أيضا على الإفلات من الصورة النمطية المكرّرة التي فقدت وهجها من كثرة التداول ويتجاوز القوالب الشعرية الجاهزة إلى التجريب كشكل شعري مفضل لديه يخرج به المعاني إلى عالم الوجود. يؤكّد الشاعر في الكلمة التي تصدّرت كتابه أنّ الشعر لا يولد من العدم ولا من ضغوط الخارج وإكراهاته وإنّما تولد القصيدة بلا ميعاد ولا استئذان وتولد من هذه المفاعلة المتوترة بين ما يصبو إليه الشاعر وما هو خارجه رغبة في إصلاح المعوج وتطهير الزيف. يقول الشاعر بوزيان ”هكذا هي علاقتي بالشعر لا أدعوه مكرها إنّما يعودني حنين روح إلى مصدرها الأول كأنًها فيض بلا انتهاء أو كأنّها نور يغشاني دون إرادتي وما أصعب هذه العلاقة الغائبة التي لا يدركها إلاّ الشعراء أو الذين يتذوّقون الشعر وهم بدورهم شعراء لكنهم لا يكتبون الشعر”. الصعب عند بوزيان هو استحضار الشعر وهو يأبى الحضور وكأنّ القصيدة تتمنّع راغبة أو راهبة وتأتي الخيبة حين التمنّع وعندما تفلت القوافي وكأنّها لم تكن يوما ملك يمين الشاعر فيحدث النكران والجفاء وتبقى العلاقة بين كرّ وفرّ إلى أن يحدث القنص في لحظة ما وفي موضع ما تماما كما يحدث مع الجنية التي إمّا تتغلب عليها أو تلبسك. الشعر عند بوزيان ليس رصفا للكلمات ولو كانت كذلك لكان أهل اللغة أشعر خلق الله وإنّما هي -حسبه- لعب بالنار لا تدري متى تخطئ فتحرقك، والديوان الجديد ما هو إلاّ ترجمة لأفكار ومشاعر بوزيان الشاعر سيتذوّقها المتلقي بكل ما يملكه من حواس. من بين أجمل قصائد هذا الديوان ”وشم على المشاعر” يقول فيها: ”جار البلا وبات على جراحي بيشم من زيخوا الكلمة وصرلها معلم عطر الجود عاش بطيبهم يتنسم استهل الشاعر ديوانه بالمديح من خلال قصيدة ”مذاق الأنوار” وجاء فيها: ”بسم الله الواحد الجليل المعبود الغاني بسم الله أنوارها سمات على كل معاني باسم الله إذا انطقت بها يضعف شيطاني صلى الله عليك يا الصادق يا نور عياني يتضمن الكتاب 26 قصيدة تحمل تجربة شعرية جديدة ولغة لا تقل جدة وهو صادر عن منشورات فاصلة.