التقى وفدان كوريان رفيعا المستوى أمس في أول محادثات سياسية بين الأختين العدوتين منذ سبع سنوات، قد تنتهي بإذابة الجليد أو بعض الجليد العالق في علاقاتهما، وإزالة فتيل التوتر المتواصل بينهما منذ ستين عاما. وإذا كان جدول أعمال هذا اللقاء الذي جرى بقرية بان مون جون الحدودية بقي محاطا بسرية تامة، إلا أن تخمينات توحي بأنه لن يخرج عن دائرة بحث الوفدين عن وسيلة لنزع فتيل الحرب الإعلامية بين بلديهما وكذا بحث مسألة تجميع العائلات الكورية، التي فرّقت الحرب الأهلية شملها منذ سنة 1953، أو على الأقل إيجاد آليات لتنظيم زيارات عائلية على خط وقف إطلاق النار عند حدود خط عرض 38، الذي كرّس تقسيم بلد كان موحدا قبل أن تقرر القوى الكبرى في إطار صراع التموقع الذي تلا الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، تكريسه، ومعه مأساة شعب بأكمله. والمفارقة أن العلاقات بين الكوريتين ازدادت توترا ضمن حرب باردة متواصلة منذ أكثر من ستة عقود، لم تشأ حكومتا سيول وبيونغ يونغ النظر إلى خلافاتهما من زاوية إمكانية حلها والتمهيد لإقامة وحدة تاريخية؛ تماما كما حدث في دول كانت تعيش وضعيات مماثلة. وهي الحقيقة القائمة رغم أن لقاء أمس تم عقده في قرية تحمل كثيرا من الدلالات السياسية؛ كون جزء منها يقع في كوريا الشمالية، وجزؤها الآخر في كوريا الجنوبية، وهي نفسها القرية التي عرفت التوقيع على وقف إطلاق النار بين الكوريتين بعد حرب الثلاث سنوات. ورغم أن صراع القوى الكبرى ومقارباتها في رسم السياسة العالمية أخذ صيغا أخرى منذ انهيار جدار برلين، إلا أن الكوريتين أبقتا على طبيعة الصراع بينهما؛ على خلفية صراع بين نظام شيوعي يمقت الأمبريالية، وآخر رأسمالي يكره الشمولية، وبينهما تاه الشعب الواحد، بل والعائلة الواحدة في إمكانية تحقيق الوحدة التي يتوق إليها عامة الكوريين في الشمال كما في الجنوب. ويبدو أن هذا الحلم مازال بعيدا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن البلدين لم يتفقا حتى على تنظيم زيارات عائلية لأسر فرقتها الحسابات السياسية والتهديد الأمني بينهما؛ حيث فشل آخر اجتماع في هذا الخصوص كان مقررا شهر سبتمبر ولكنه أُجهض في آخر لحظة، بعد أن احتجت السلطات الكورية الشمالية على مناورات عسكرية تمت بين غريمتها الجنوبية ووحدات من الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي، واعتبرت ذلك بمثابة استفزاز مقصود وتهديد لأمنها القومي. والمفارقة أن مفاوضات أمس بين سيول وبيونغ يونغ جاءت أيضا عشية مناورات عسكرية دورية ضخمة مماثلة، يُنتظر أن تطلَق بين وحدات الجيشين الأمريكي والكوري الجنوبي يوم 24 فيفري الجاري، كما أنها جاءت في نفس اليوم الذي وصل فيه وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى كوريا الجنوبية، في زيارة سيكون فيها الملف النووي الكوري الشمالي محور محادثاته. ولا يُستبعد، نتيجة لذلك، أن يعرف هذا الاجتماع نفس مصير اجتماع شهر سبتمبر رغم أن لقاء أمس عُقد بطلب من السلطات الشمالية، التي عبّرت عن نيّتها في تسوية معاناة العائلات المنقسمة بين الأسلاك المكهربة على طول حدود البلدين. فهل يفلح الجانبان هذه المرة في إيجاد مخرج لمعاناة هذه الأسر، يكون بداية لحسم خلافات أكثر عمقا، تراكمت طيلة سنوات الفرقة والشقاق، أم أن زيارة جون كيري ستخلط كل الحسابات وستزيد في درجة الشك والريبة بين عاصمتين أختين، ولكنهما أصبحتا عدوتين؛ وكأن لا شيء يجمع بينهما؟! وحتى إن سلّمنا بأن مفاوضات قرية جون مان يونغ لن تأتي بما هو أكبر من مجرد لقاءات برتوكولية، إلا أنها لقاءات تبقى ذات منفعة لتليين المواقف وتمكين كل طرف من الاطلاع على نوايا الآخر، وربما تقديم تنازلات من هذا الطرف، وذاك من أجل تحقيق الهدف النهائي في تحقيق الوحدة المنشودة.