صدر مؤخرا تقرير جديد جاء كباكورة ورشة عمل إقليمية دعت إليها «شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية» لإطلاق «راصد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية 2012» ، و قد تمحور العدد الأول حول الحق في التعليم و الحق في العمل ، و جاء الجزء المخصّص للجزائر من خلال تقريرين مفصّلين قام بهما الدكتور و الباحث و الخبير الاستراتيجي و مدير معهد العلاقات الدولية بالجزائر " عمّار جفال " . استهلّ الدكتور جفال تقريره بسرد للمرجعيات القانونية للمنظومة التعليمية في الجزائر أين عرض الكرونولوجيا الزمنية التي مرّ بها قطاع التعليم في الجزائر ، حيث وصف ما ورثته الجزائر من فرنسا في هذا القطاع بالكارثية من حيث محدوديتها و سوء التأطير التقني و الإداري الذي شهدته المرحلة ، بالإضافة إلى العدد الضئيل للمتمدرسين في ظلّ نسبة هائلة من الأميّة ( أكثر من 85 بالمائة ) ، و عرّج الدكتور بعد ذلك إلى حالة التعليم بعد الاستقلال أين أصبح الحق في التربية و التعليم أحد الأهداف الأولى التي سعت السلطات إلى تجسيدها من خلال محطات عديدة بدأت بتنصيب لجنة لإصلاح و هيكلة التعليم سنة 1962 إلى مشروع 1973 الذي تزامن مع المخطط الرباعي الاقتصادي الأوّل مرورا بأمرية 16 أفريل 1976 المتعلّقة بتنظيم التربية و التكوين و وصولا إلى مشروع المدرسة الأساسية في مطلع الثمانينات و ما نصّ عليه دستور 1996 ، و قد أثرى الدكتور كلّ هذا بمؤشرّات دعّم بها تحليله لمجهودات الدولة الجزائرية في ميدان التعليم الذي شهد تحسّنا يمكن قياسه بالتراجع الكبير للأميّة و ارتفاع المخصصات المالية لقطاع التربية إضافة إلى تزايد التحاق المرأة بعالم التربية و التعليم ، و هي النقطة التي خصّص لها الباحث مساحة كبيرة محلّلا فيها الحالة النسوية و التربية .
و حسب الدكتور فقد شهد المسار التربوي في الجزائر نسبا عالية و متقاربة من التمدرس بين الجنسين أين بلغت نسبة تمدرس الفتيات ( 6-15 عاما ) 87 بالمائة ، في حين قفزت نسبة خريجات الجامعات ب 5.55 بالمائة مقارنة بالسنوات الماضية ، لكنّ الدكتور أعطى صورة شبه سوداوية عن الأمية في الوسط النسوي بالنسبة للشريحة العمرية فوق 40 عاما مستشهدا في ذلك بالنتائج التي وصلت إليها الباحثة الدكتورة " شبيلة العايب " ( مختصة في شؤون المرأة ) ، و التي وجدت أنّه على الرغم من الإنجازات الكبرى التي وفّرتها الدولة فمازال مشروطا برؤية العائلة و بموقع المدرسة و سلوك الفتاة و تفوقها العلمي ، فأوّل فشل يؤدي في الغالب إلى الرجوع للبيت ، ضف إلى ذلك شبح العنوسة الذي يلعب دورا في اختيار الفتاة التّخلي عن الدراسة مقاابل فرص زواج أكبر ، ليعود الدكتور إلى الجزم بأنّ الوصول إلى المؤشرات التي جاءت في بحثه تمّ الوصول إليها ضمن أطر قانونية خالية من أشكال التمييز بين الجنسين ، لكن الظروف المادية و الموروثات الاجتماعية و الثقافية لا زالت تشكّل مصدرا هاما للفوارق بين حظوظ الترقية الاجتماعية بين الذكور و الإناث .
و عرّج الباحث بعد ذلك إلى وضعية المعوقين في مجال التربية ،حيث وصل الدكتور غلى أنّ كل الخطوات الداخلية و الخارجية الهامة التي أنجزتها الدّولة من أجل إدماج فئة ذوي الاحتياجات الخاصة إّلا أنّه في نظر كل الجمعيات العاملة في القطاع فكل المجهودات تبقى محدودة جدا بالنظر للعدد الكبير من المعوقين و حاجياتهم الضخمة التي تتطلّب اهتماما خاصا و مميّزا ، و هي الدعوة التي عزّزتها الفدرالية الجزائرية للأشخاص ذوي الإعاقة بالتنسيق مع المنظمة الدولية للمعوقين و بتمويل من ممثلية الاتحاد الأوروبي بالجزائر في مشروع إنشاء منصّة للمنظمات الغير حكومية في الجزائر . و في ختام تقريره حول وضعية التعليم في الجزائر ، خصّ الدكتور بحثه بجملة من التوصيات كانت أهمّها : 1- تأكيده بأنّ كل الأطراف المعنية تؤكّد ضرورة مبدأ مجانية التعليم و حماية طابعه العمومي من أجل ضمان تكافؤ الفرص امام الجميع دون تمييز ، 2- ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل الحد من الفوارق الجهوية في ميدان التعليم ، 3- ضرورة تطوير مبدأ المساواة بين الفئات المختلفة بما فيها المعوقّين ، 4- ضرورة الانتباه لمبدأ التأطير كمّا و نوعا كمبدأ تطالب به كل النقابات ، 5- الشروع في إصلاح عميق للمنظومة الجامعية من خلال ضرورة تقليص التسيير البيروقراطي الإداري للقضايا البيداغوجية و رسم سياسة ناجعة لتحسين مستويات الأساتذة ، و العمل على دعم الاستقلالية الأكاديمية و الغدارية للمؤسسات البحثية و الانفتاح أكثر على النقابات و الشّركاء الاجتماعيين بهدف توسيع التّشاور و إرساء تقاليد التفاوض و الحوار .
و شارك الدكتور " عمار جفال " بتقرير آخر في المرصد حول " الحق في العمل في الجزائر " ، استهلّه بعرض لتطوّر الإطار القانوني للشغل في الجزائر ، الذي قسّمه إلى مرحلتين ( اشتراكية و ليبرالية ) ، حيث انّ نهاية الثمانينات و تعرّض الجزائر إلى ازمة مالية خطيرة – حسب الباحث – ، فتح المجال نحو توجّه اقتصادي و سياسي و اجتماعي ليبرالي يميل اكثر إلى اقتصاد السّوق ، متخلية في ذلك عن القانون العام لسنة 1978 و مستصدرة لقوانين جديدة لتنظيم العمل منذ 1990 مشكلّة بداية التأسيس ل " سوق العمل " ، و بيّن الباحث كيف أنّ هذا الإطار القاموني الجديد قد تمحور حول انشغال رئيسي يتمثل في كيفية ضمان القدر الأكبر من مناصب الشغل و ضرورة حمايتها . و تحدّث الباحث في نفس السياق حول مصطلح " سوقنة اليد العاملة " ، و يعني بذلك محاولة الحفاظ على الشغل لكن من دون عقد عمل ، و بالتالي من دون حماية للحق في العمل ، و هو ما يتعلّق حسب الدكتور " قريشي " الذي اعتمد باحثنا على نتائجه في تفسير مصطلح " سوقنة اليد العاملة " ، و الذي نوّه إلى أنّ قانون الشغل يهدف إلى إزاحة قانون العمل و الحلول محلّه ، و وصف الدكتور الصيغة الجديدة " عقود الإدماج " أنّها اجتهاد يقفز على قانون العمل – حسب تعبيره دائما - .
و بعد تعديد المؤسسات المؤطّرة للعمل في بلادنا ، اشار الباحث إلى أنّ التراجع السريع للنموذج التاريخي لمنصب العمل المهيكل و المستقر بفعل عمليات الاندماج ، يتماشى و آليات العولمة و إعادة الهيكلة الاقتصادية الدّاعمة لعلاقات العمل المرنة ، و حسبه ، فإنّ هذه الأشكال الجديدة من العمل تتطلب بالضرورة قواعد قانونية جديدة تضمن التوفيق بين هذه المرونة و الحماية الاجتماعية ، انطلاقا من قناعة وجوب وضع مسألة توفير الشغل كقاعدة انطلاق أساسية لبرامج التنمية و محاربة الفقر ، و ليس كنتاج لعميلة النّمو التي تتحكّم بها قوى السّوق ، و يبيّن كيف أنّه اصبح من الضروري إشراك التنظيمات المجتمعية في صياغة و تطوير سياسات العمل و التشغيل من خلال توسيع دائرة المشاركة و الحوار بين الإدارات المعنية و التنظيمات المجتمعية المختلفة، و التي تتوفر على معرفة ميدانية و قدرة على الاقتراح المباشر للحلول .
و حول مشكل البطالة ، قال الدكتور إنّ نسبتها شهدت انخفاضا و تحسّنا تدريجيا منذ عام 2000 ، و ذلك بواسطة البرامج المثمرة التي انتهجتها الدّولة ، و اعتمد الاستاذ " عمار جفال " على احصائيات و تقارير داخلية و خارجية خلصت جلّها إلى نسبة 11 بالمائة سنة 2008 و 10 بالمائة سنة 2010 ، و حسب نفس التقارير ففئة الشباب هي الأكثر تضررا من البطالة في الجزائر ، حيث سنة 2001 وصلت نسبة البطالين الذيت تقلّ أعمارهم عن 30 عاما إلى 73 بالمائة و هي نسبة تفوق 5.2 مرات المعدّل الوطني ، وبالنسبة للباحث دائما فإن كلّ هذا يظهر في التوتر الاجتماعي المزمن الذي يظهر في أعمال الشغب ، إضافة إلى أنّ نسبة كبيرة من البطالين الشباب هم من حملة الشهادات العليا ما يؤكّد مرّة أخرى عدم تجانس و فعالية برامج التعليم و التكوين مع حاجيات سوق العمل ، ليصل الدكتور بعد ذلك إلى حالة الفئة النسوية مع عالم الشغل حيث بيّن كيف انّ نسبة المرأة العاملة زاد بنسب مهمة منذ مطلع سنة 2000 حيث وصلت النسبة حاليا حسب مختلف التقارير إلى 18 بالمائة و هي التي كانت لا تتجاوز 8 بالمائة في نهاية السبعينيات ن و يبقى هذا التزايد محدودا في نظر الباحث مقارنة بمعدلات بلدان مجاورة قريبة اجتماعيا و ثقافيا ، و أرجع هذا التّدهور إلى واقع التراجع العام لفرص العمل و غياب الأدوات المساعدة على تحرر المرأة إ ضف غلى ذلك غياب البرامج الخاصة بترقية عمل المرأة ، إضافة إلى شيوع بعض المعوقات الثقافية القائمة في وجه خروج المرأة لعالم الشغل ( كالزواج مثلا ) . و كنهاية منهجية لتقريره أعطى الدكتور في الأخير توصيات خاصة ب " الحق في العمل بالجزائر " ، و كانت أولاها هي تشجيع العقود الغير محددة و محاربة التجاوزات التي قد ترتكبها المؤسسات الخاصة و العمل باستعجال إلى النظر للعديد من جوانب السياسات التي تنتهجها الدولة ، و أضاف الدكتور في توصياته نقطة ضرورة التقليص من الفوارق المختلفة بين الريف و المدينة و بين الجنسين ، و توسيع فرص التأمين الصّحي و الحماية الاجتماعية و العمل على ترقية العمل النقابي ، و اقترح " عمار جفال " صياغة سياسة وطنية حول قضايا المرأة و دعم القوانين التي تجرّم التحرش الجنسي و تطوير قوانين و تشريعات العمل بما يضمن عدم إقصاء الفئات الهشّة و في مقدمتها فئة المعوّقين . و حول مشاركته في العدد الاوّل من المرصد ، قال الدكتور جفال إنّ مشاركته تهدف إلى رصد السياسات العامة في الجزائر و رصد سيرورة تنفيذها بإتباعها و التزامها بالمعاهدات الدولية ( الاقتصادية ، الاجتماعية ، الثقافية ، ..) على مستوى التشريع و التطبيق في نفس الوقت ، و قد ركّز الدكتور جفال على الحق في العمل و الحق في التعليم اعتمادا على تحاليل و مواقف و آراء مجموعة واسعة من ناشطي المجتمع المدني و النقابي و الباحثين بالشأن العمالي و التعليمي و قد أجرى الباحث مقاربة بين هذه التقارير و بين السياسات و المخططات العمومية التي شملت مختلف القطاعات .
للإشارة ، فإن التقرير الأول الذي يصدر عن شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية ، وهو باكورة الجهود التي استمرت أكثر من سنة وشارك فيها قرابة ثلاثين باحثة وباحثاً ، جاء بعد الاطلاع على التقارير الاقليمية والوطنية لمختلف البلدان العربية، حاول التقرير إبراز أهم الخلاصات العامة التي تواجه المجتمع المدني في المنطقة ، و هو التقرير الذي نال حظّه من الانتقادات ، حيث أنّه حمل اختلالا في أبوابه – حسب المختصين - ، لعدم الاعتراف بخصوصية بعض البلدان لناحية الهجرة والعمالة ، حتى أن البعض شككوا بالأرقام معتبرين أنه «لا يمكن الوثوق بها، وأن التقرير يحتاج إلى بعض الإضافات، لا سيما في ما يتعلق بالإحصاءات التي أخذت في ظل الأنظمة السابقة». ، هي حين ينتظر إصدار تقرير جديد حول الصّحة في الوطن العربي .