الاستحقاق الأخير اختلف عن سابقيه من عدة أوجه، ليس فقط لأنه جاء مباشرة بعد اعتماد سلسلة من الإصلاحات أدخلت على قانوني الأحزاب والانتخابات، كانت قد وافقت عليها على الأقل الأحزاب الممثلة في البرلمان، ولكن لأنها جاءت بما لا تشتهيه سفن القوى التي كانت تتربص بأمن واستقرار البلاد في الداخل والخارج، ليس فقط على مستوى نسبة المشاركة التي خيبت ظن من كان يراهن على فشل الاستحقاق للترويج للفوضى القادمة من ربيع الأعراب، بل وعلى مستوى النتائج التي زكت الخيار الوطني ورفضت المغامرة مع التيار الإسلامي بشكله الحالي. فالأحزاب الإسلامية، كما بعض الأحزاب اليسارية المهزومة عادت إلى عادتها القديمة بالطعن البعدي بالتزوير، بعد أن أخفقت في إقناع المواطنين مرتين: الأولى حين لم يستجب لها الشارع الجزائري عندما راودته على استنساخ مسارات الربيع التدميرية، والثانية حين سفه الناخب أحلامها عبر الصناديق التي لم تطعن فيها لا قبل ولا أثناء جريان فعاليات التصويت. وكما كان متوقعا، فقد سارع الشيخ جاب الله كعادته إلى التشكيك في صدق النتائج متهما الإدارة بالتزوير دون أن يقدم أدنى دليل، وهدد الدولة "باعتماد الخيار التونسي من اجل التغيير في الجزائر" حتى وإن كان نائبه السيد بن خلاف قد استدرك عليه بالقول: أن تصريحات الشيخ جاب الله تم تأويلها، وأنه قال: أن السلطة في الجزائر، بتلاعبها بنتائج الانتخابات فوتت فرصة التغيير عبر الصندوق، وهي تدفع نحو خيار التغيير عبر الشارع كما حدث في دول عربية مثل تونس" في اعتذار هو أقبح من ذنب. بدورها دخلت حركة مجتمع السلم في سوق المزايدات، وروجت لخطاب اتهم الاستحقاق الأخير بالتزوير، رغم أن الحركة قد خسرت أربعة مقاعد فقط قياسا مع تشريعيات 2007 ، وهو ثمن زهيد إذا ما نظرت إليه الحركة من زاوية ضعف مشاركتها في التحالف الرئاسي، وسوء أدائها النيابي طوال العهدة المنتهية. وربما يكون السيد مقري على حق حين رأى أن الموقع الجديد لحمس كأول قوة معارضة في البرلمان هو أفضل خيار للحركة لمراجعة خياراتها وبرامجها وقياداتها. بدورها خرجت لويزة حنون عن خطابها التقليدي الرافض لمسارات الربيعي، لتشن حملة هوجاء على الإدارة وجبهة التحرير، متهمة الأولى بالتزوير، رغم أن حزب العمال لم يفقد سوى ستة مقاعد مقارنة مع استحقاق 2007 الذي استفادت فيه من تدخل الإدارة لصالحها أكثر من أي استحقاق آخر، ولم تشارك حنون وقتها مع زمرة المشككين في الانتخابات. مجموع التيارات، التي شككت في نزاهة الاستحقاق، لم تأت بدلي واحد قاطع وحاسم لحالة تزوير واضحة، تكون قد غيرت من مجرى الانتخابات، ولن يكون بوسعها ما دامت كانت مشتركة في مراقبة الانتخابات، وقد استلم ممثلوها نسخا عن محاضر الفرز بمكاتب التصويت، وبوسعها أن تتقدم بما تشاء من الطعون، وهي مسلحة بالمحاضر، إلا إذا كانت قد عجزت عن الوفاء بإيفاد ممثلين عنها لرقابة المكاتب، واستلام المحاضر، فلا يجوز لها وقتها أن توجه اللوم للإدارة أو لجبهة التحرير. وفي الواقع، فإن الأصوات العالية، والهروب إلى الأمام بهذا التشكيك الذي قد يضعف البرلمان، ليس أكثر من جعجعة تريد التغطية عن الهزيمة التي تتحملها قيادات هذه الأحزاب، التي تحرم مناضليها من ممارسة الديمقراطية داخل مؤسسات الأحزاب، وتمنع التداول على السلطة. فالسيد جاب الله قد عرف بتسلطه على مؤسسات الأحزاب الثلاث التي شارك في بنائها، قبل أن تجرفه التصحيحيات والإنقلابات العلمية من رئاسة النهضة والإصلاح، وقد ظل السيد أبو جرة متمسكا برئاسة حمس منذ وفاة الشيخ نحناح، ومن جهتها خلدت السيدة حنون على رأس حزب العمال، الذي ما كان له أن يتحول إلى حزب برلماني لولا دعم الإدارة له في أكثر من استحقاق، وسمح له بتحويل تمثيله النيابي إلى مصدر تمويل للحزب، الذي يقتطع نصف أجور نوابه قدر في العهدة المنتهية ب 234 مليون دينار. وقد كان بوسع هذه الأحزاب أن يقرأ النتائج على أنها رسالة صريحة من الناخبين تدعوها إلى مباشرة الإصلاح والتغيير داخل المؤسسات الحزبية، وإعطاء الدليل على أنها تؤمن بالديمقراطية والتداول على السلطة، وأنه ما لم تعد القيادات إلى قواعدها بجرد حساب موضوعي، ومحاسبة للقيادات بوصفها مسؤولة عن الهزيمة كما عن الفوز، فإن المشهد السياسي الذي أعيد فتحه على مصراعيه لتشكيلات جديدة، ودعوة الرئيس لجيل الشباب باستلام القيادة، سوف ينهي تصفية الكثير من القوى، التي عاشت متطفلة على التعددية السياسية، تمدحها عند المغنم، وتذمها وقت المغرم حسب العطاء، ولعل هذه المحاسبة القادمة لا ريب، هي التي دفعت بهذه القيادات الفاشلة إلى الطعن في نزاهة الانتخابات رغم الشهادات الدولية المتواترة على صدقتيها ونزاهتها.