لم يسبق لي كمعظم الجزائريين وأن قابلت عبد المؤمن خليفة عندما كان يُسيّر إمبراطوريته المالية في الجزائر والخارج، وإن كنت من الذين كتبوا كثيرا عن مشاكل شركاته مع بروز أولى علامات الإفلاس التي أطاحت به من عليائه بضربة واحدة. لم يسبق لي أيضا وأن زرت أحدا في السجن لا في الجزائر ولا في غيرها، لكن شاءت الأقدار والصدف أن أكون أول، وربما آخر، من يلتقي الخليفة داخل سجنه في منطقة "واندسورث"جنوب غرب لندن وهو الذي رفض عشرات العروض الصحفية التي كانت تتهاطل على مكاتب محامييه وبشكل خاص من فرنسا وبريطانيا. ليس يسيرا على الإطلاق أن تقنع شخصا يعيش في مثل حال الخليفة، بل الخليفة بالذات، بأن يتحدث إليك وهو يعلم أنك صحفي وأن كلامه سينشر في صحيفة جزائرية. في الواقع لقد أخذ مني تنظيم هذه المقابلة شهورا طويلة وتحديدا منذ شهر أوت 2007 في آخر ظهور للخليفة في محكمة ويستمنستر عندما كان يواجه تهما فرنسية وحكما بالترحيل إلى باريس. في ذلك اليوم ولحسن الحظ تعرفت على شخص سيكون هو المفتاح السحري الذي سيفتح لي باب زنزانة الخليفة. هذا الشخص لم يكن سوى حارسه الشخصي الذي سأرمز إليه هنا بحرف"الميم" التزاما بوعد قطعناه بأن لا نكشف هويته. على كل استمرت الإتصالات مع "م" منذ سبتمبر 2007 وإلى غاية يوم الإثنين 24 مارس الفارط عندما فاجأني في مكالمة هاتفية بأن الخليفة قد قبل أخيرا الحديث إلي وأنه عليناَ إرسال معلوماتنا الشخصية إلى إدارة السجن حتى يُسمح لنا بالزيارة وفقا للقوانين المعمول بها في السجون البريطانية دون استثناء. لم يكن القيام بذلك شيئا صعبا فقد تم ترتيب كل شيء في مكالمة هاتفية لم تتجاوز مدتها العشر دقائق وضُبط الموعد بيوم السبت 29 مارس الساعة 11:15 صباحا مع تنبيه بضرورة الحضور نصف ساعة قبل الوقت المحدد للقيام ببعض الإجراءات الاعتيادية، وهذا ما تمَّ بالفعل. في الحقيقة لم أكن قبل عبوري آخر بوابة من عالم الحرية متيقنا تماما من أن المقابلة ستتم وكانت تراودني شكوك بأن أمرا ما سيحدث وتذهب كل الترتيبات أدراج الرياح في آخر لحظة، خصوصا وأن "م" أخبرني في الهاتف بأنه سيتأخر وأنه عليَّ انتظاره في المسافة الفاصلة بين عوالم الأحرار والمسجونين وبيدي التذكرة التي بها سنمر إلى" العالم الآخر". كانت الساعة تشير إلى 11:09 عندما وصل "م" يلهث بشدة معتذرا عن التأخير، صافحني ثم تقدمنا باتجاه الحارس الذي فحص بطاقاتنا الشخصية وهو لا يفهم لماذا يلهث هذا الرجل الذي يقف بجانبي، ثم تقدمنا خطوات أخرى نحو حارسين، أحدهما طلب منا إفراغ كل ما في جيوبنا حتى المناديل وترك المعاطف على الطاولة وهنا بالذات شعرت بشيء من الإحباط لأنه كان لزاما عليَّ ترك مسجل الصوت وآلة التصوير التي حملتها معي أملا في التقاط بعض الصور"النادرة" ، وقبل أن أعبر جهاز "السكانير" أمرني الحارس ذاته بمد يدي اليسرى التي وضع عليها ختما لم يكن لا بالحبر الأزرق ولا بالأحمر بل كان شفافا لا يُرى، توجهت صوب الحارس الثاني مستغربا حتى وجَّه لي هذا الأخير سؤالا وهو يشير إلي برفع ذراعيَّ "هل تحمل شيئا محظورا سيدي؟"، لم أكد أجيب بالنفي طبعا حتى باشر بتفتيشي شبرا شبرا،"جيد تفضل معطفك سيدي وسنُبقي كل أغراضك في الخزانة وهذا المفتاح خذه معك"، مرَّ "م" بنفس الإجراءات ثم همس في أذني: نحن الآن رسميا سجناء؟. كان علينا مع كل ذلك الإنتظار لحوالي خمس دقائق في قاعة صغيرة كانت شبه مكتظة قبل أن يتقدم سجَّانان آخران، أحدهما يمسك بالباب الحديدي الضخم والآخر يأمرنا باتباعه صوب مبنى آخر. مشينا كلنا مثل الجنود الواحد تلو الآخر، لا تكاد تسمع سوى همسات خفيفة وكأن الكلام ممنوع. صعدنا الدرجات إلى الطابق الأول حيث كان يقف الحارس ممسكا بالباب وبجانبه حارسة تحمل قائمة بأسماء السجناء لتسأل كل داخل عن اسم المسجون، وطبعا كان صاحبنا اسمه الخليفة أشهر مطلوب لدى العدالة الجزائرية. كان عليّ أن أدلها على اسم رفيق عبد المؤمن خليفة لأنني كنت قد لمحت ثلاثة أسماء "خليفة" ولا ادري إن كانا الآخران جزائريين أم لا، "رفيق خليفة طاولة رقم 17 من فضلكما". كان هذا صوت الحارسة تأمرني بالتقدم نحو الطاولة. جلسنا في القاعة التي تعالت فيها أصوات من كانوا صامتين قبل نحو ثلاث دقائق فقط، لم أر سوى أناس يعانقون بعضهم، بكاء طفل منبعث من إحدى زوايا القاعة وأصوات الكراسي تحتك بالأرضية عند سحبها للخلف، لم أكن حتى تلك اللحظة سوى مثبت عيناي صوب الباب الذي يخرج منه السجناء، يخرجون الواحد بعد الآخر، يتم تفتيشهم بدقة كبيرة ثم تُعطى لهم قمصان حمراء. فهمت بعد ذلك أنها من إجراءات مراقبة النزلاء حتى لا يتمكنوا من الفرار لأنهم يرتدون ألبستهم الشخصية ولا يمكن التفريق بينهم عند الاختلاط بزوارهم. بعد حوالي دقيقتين لمحت الخليفة وهو يهم بالخروج، لكن أحد الحراس ناداه من جديد لأنه لم يأخذ قميصه الأحمر ليرتديه، وهناك أشرت إلى"م" أن يلوح إليه بيده حتى يرانا وسط ذلك الزحام. كنت إلى غاية تلك اللحظة غير مصدق أن الخليفة الذي سُمي بالفتى الذهبي، صاحب الإمبراطورية المالية ومالك الطائرات والشركات والبنوك ومن كان لا يُقابل إلا في الفنادق الفخمة والمكاتب المكيفة، وهو يرتدي أفخر الثياب وأجود أنواع السيجار، هذا الخليفة الذي لم أسمع عنه ولم أره إلا عبر شاشات تلفزيون الخليفة والقنوات الفرنسية عندما كان يمضي عقود تمويل فريق مرسيليا لكرة القدم وبصحبته الممثل جيرالد ديبارديو، وفي حفلات قصور مدينة "كان" وبرفقتهما كبار مشاهير الفن والسينما وحتى ابنة أخ الرئيس الأمريكي جورج بوش.....من يمشي صوب الطاولة رقم 17 كان هو الخليفة بشحمه ولحمه. يمشي بخطى متثاقلة، مائلا قليلا لكنه ومع ذلك كان يوزع ابتسامات يمنة وشمالا على بعض من رفاقه السجناء قبل أن يصافح حارسه الشخصي ويعانقه ثم يصافحني ونجلس جميعا حول الطاولة رقم 17. وحتى تلك اللحظة شعرت أنني كنت أنظر إليه لأكثر من ساعة، لقد كنت أعرف أنه عليَّ نقل أدق تفاصيل حركاته وإيماءاته وشكله وطريقة كلامه. لقد اعتدت رؤيته خلف البيت الزجاجي للمحاكم مرتديا بدلة سوداء وقميصا أبيض من دون ربطة عنق، أما اليوم فهو يرتدي بدلة رياضية رمادية اللون من نوع"أديداس"، لم تكن تبدو في حالة جيدة ولا أعرف إن كانت مخصصة لممارسة الرياضة أم لا. على كل فقد أصبح جزؤها العلوي مغطى بقميص السجناء الأحمر. لم يكن حالقا ذقنه وبدا شعره كثا في الجانبين. ونحن نهم بالجلوس بدأت بتقديم نفسي وتعريفه بجريدة "المستقبل" قبل أن يقاطعني "م" مازحا "لقد أخبرته كل ذلك، وقت الزيارة محدود وعليك استغلاله بالدقيقة". اعتذرت ل"م" بأنني سأتحدث لعبد المؤمن باللهجة الجزائرية حتى نفهم بعضنا جيدا ولم يكن في ذهني أي سؤال جاهز وماذا كان عليَّ أن أطرح ومن أية زاوية أبدأ؟، لحسن الحظ استوقفنا "م" وسأل إن كنا نريد شرب شيء، طلبت قهوة "سوداء" ومثلي فعل الخليفة وزاد عليها قارورة ماء وعصير برتقال وقطعة شكولاطة من نوع " كيت كات" ثم علَّق مازحا "أنا لا أريد مضاعفة وزني"، والحقيقة أن من شاهد الخليفة "أيام زمان" يعرف أنه عليه الآن التهام قطع كبيرة وكثيرة من كل أصناف الشكولاطة المتوفرة قبل أن يعود إلى حجمه ووزنه الحقيقي. حضرَت القهوة الساخنة وبدأت مع أول ارتشافة دردشة طال انتظارها: - قل لي كيف تقضي وقتك هنا وسط هؤلاء المساجين؟ ليس هذا مكانا يتمناه الواحد منا لكن على العموم الظروف جيدة، هذا برأي ليس سجنا مثل السجون التي يعرفها الناس. لدي تلفزيوني الخاص وجهاز ديفيدي بل بإمكاني طلب " بلايستيشن3"،الطعام متوفر بكل الأنواع والأصناف من الهندي وحتى الصيني. أقضي وقتي أحيانا في ممارسة الرياضة لكن في معظم الأحيان أجالس الكثير من الجزائريين المسجونين هنا وعددهم حوالي 30، أكثرهم"حراقة" ولا أخفي عليك أنا هو زعيمهم (يضحك). الجميع يحترمني على الأقل لأنني أكبرهم. وعلى فكرة أحيانا تطلب مني إدارة السجن المساعدة على الترجمة لبعض النزلاء الجدد لاسيما العرب من سوريا والعراق وفلسطين ممن لا يحسنون الإنجليزية، لكن ذلك لا يساوي شيئا عندما تكون مقيد الحرية. - كم شخصا معك في الغرفة؟ شخص واحد فقط، كان معي جزائري لكنه حُول إلى زنزانة انفرادية لمدة أسبوع بعد أن قام بمهاجمة وضرب سجين في الساحة، الآن يقيم معي شخص من ايرلندا يقضي عقوبة ثلاثة أسابيع لأنه ضرب زوجته (يضحك مجددا)، ثم يقاطعه "م" هل هو نفس الإيرلندي البناء،"لا لا شخص أخر" يقول الخليفة معقبا "نحن نتفاهم جيدا مع الايرلنديين ونشكل معهم ما يشبه الحلف والكل يخاف منا". - ستمثل يوم الثلاثاء(اليوم) أمام القاضي في محكمة ويستمنستر ماذا تتوقع من الجلسة؟ لا بد أن أوضح أن جلسة أول أفريل لم تكن مقررة من البداية حيث أننا اتفقنا مع القاضي أن تكون هناك جلسة تمهيدية يوم 11 مارس الفارط ثم جلستان متتاليتان يومي 29 و30 أفريل وتنتهي المحاكمة، لكن الظاهر أن القاضي تفاجأ من حجم الملف الذي قدمته الجزائر والذي يقع في 300 صفحة، فاضطر إلى عقد جلسة إضافية لمناقشة بعض التفاصيل. - وماذا عن قضيتك مع فرنسا؟ (يضحك، يرتشف قليلا من القهوة ثم يحرك كرسيه باتجاهي) إذا كنت تبحث عن السبق فأنا أعطيك قنبلة:" ليعلم الجميع أن فرنسا سحبت قضيتها ضدي من المحاكم البريطانية كلية. وعلى فكرة فإن ملف فرنسا انكشف بأنه كان يحوي أدلة مزورة والعدالة البريطانية غاضبة جدا من الأمر، تذكر أن قاضي ويستمنستر أنثوني إيفنس كان قد حكم شهر أوت 2007 بتسليمي إلى باريس ثم قدمنا الطعن أمام المحكمة العليا حيث انكشف الأمر. القضية أن محكمة ويستمنستر(الإبتدائية) لم تنظر إطلاقا في طبيعة الحجج والأدلة الفرنسية وذلك بحكم الإتفاقية الأوروبية القائمة على مبدأ الثقة والمعاملة بالمثل، بمعنى أن العدالة البريطانية تثق في نظيرتها الفرنسية دون مناقشة جدية للأدلة، وهذا ما يفسر حجم المذكرة الفرنسية التي جاءت في 14 صفحة، لكن عندما وصلت القضية أبواب المحكمة العليا أمر القاضي بفحص الأدلة الفرنسية فحصا دقيقا وهناك اتضح أن كثيرا من الوثائق لم تكن حقيقية وتم إصدارها بعد وقت طويل من تلك التواريخ التي ظهرت عليها حتى اظطر دفاع الطرف الفرنسي إلى الانسحاب كلية وبهدوء. وحتى يعلم الفرنسيون فأنا بصدد تحضير دعوى قضائية ضد باريس والمطالبة بتعويضات عن كل الضرر الذي لحق بي. - لكن لماذا لم يطلق سراحك إذا كان الأمر كما تقول؟ المشكل أنه قبل أن تنتهي قضيتي مع فرنسا دخلت الجزائر على الخط حينما قدمت ملفا رسميا شهر أكتوبر الماضي ولهذا بقيت محبوسا إلى غاية انتهاء هذا الملف. وطبعا سيكون لي الحق في مقاضاة كل من تسبب في بقائي في السجن وأنا لن أطلب تعويضا عن الضرر يقل عن 30 مليون جنيه إسترليني(حوالي 320 مليار سنتيم). - يعني أنت تريد إعادة تشغيل مجمع الخليفة من جديد؟ لا أبدا ولا أريد أن أخوض في السياسة، إذا انتهت قضيتي مع المحاكم وحصلت على حقي في التعويض ربما سأدخل مشروعا إعلاميا ثقافيا لا أكثر. قد يكون موسيقيا أو فنيا أو أي شيء من هذا القبيل. لم أضع مشروعا كاملا بعد لكنه حتما سيكون ثقافيا. وبرأيي فإن أقوى قناة في العالم ليست "السي أن أن" وإنما قناة "أم تي في"الموسيقية، أنا لا أتحدث هنا عن الموسيقى الساقطة بل عن الفن الراقي ولعلمك فإني أتذوق أغاني عبد الحليم حافظ. - هل أفهم من كلامك أن الخليفة الملياردير لا يملك مالا وهو ينتظر تعويض المحكمة؟ لقد قلتها من قبل وأعيدها ليست لدي أية أموال وكل المال بقي في الجزائر، حوالي 7 مليار دولار! - لا يمكن أن تُقنع أي مواطن جزائري بأنك لا تملك المال هذا يبدو مستحيلا ما هو دليلك؟ دليل بسيط وواضح، قبل أن توقفني الشرطة البريطانية شهر مارس 2007 بسبب الدعوى الفرنسية، خضعت شهر فيفري 2007 لتحقيق دقيق من قبل وحدة مكافحة الجرائم المالية في سكوتلانديارد بتهمة تبييض الأموال. جاءني ضباط كبار وقالوا لي بالحرف الواحد "إذا كنت متورطا في جرائم غسل الأموال فاعلم بأننا سنصل إلى تلك الأموال ولو أخفيتها تحت الأرض"، وفعلا قاموا بتحقيقات كبيرة وعلمت أنهم طلبوا مساعدة مكتب التحقيقات الفدرالي(أف بي أي) للنظر في إمكانية وجود تعاملات مالية خاصة بي في أمريكا حتى أنهم حققوا مع مواطنين أمريكيين كنت أعرفهم ولم يصلوا إلى شيء، وبذلك طوت سكوتلانديارد هذا الملف نهائيا وهذا يعني أن بريطانيا ليست لديها حسابات شخصية معي. - هناك جدل حول وضعك القانوني هنا في بريطانيا وأنا أريد منك إجابة واضحة وصريحة؟ أنا رسميا حاصل على اللجوء السياسي منذ أربع سنوات وهذا يعني أنه لدي كل الحق في العيش هنا بصفة طبيعية. - هل هناك من يزورك في السجن؟ (يجيبني بالإنجليزية) طبعا كثير من الناس، منهم مسئولون فرنسيون وحتى جزائريون. وهنا يتدخل "م" لماذا لا تعطي هذا الصحفي الفرصة لكتابة قصتك في كتاب، لكن الخليفة ردَّ عليه وهو ينظر إلي قائلا "من بين تلك الصفقات صفقة مع دار نشر فرنسية أعطيتها حقوق نشر كل تفاصيل قصتي في كتاب سيظهر في يوم ما." - لماذا رفضت الحديث للصحف الأجنبية برغم الطلبات الكثيرة التي وصلتك؟ هو اختيار ومسألة وقت، وأنا أفضل في هذه الظروف الإحتياط من تأثير وسائل الإعلام وأنا أيضا على إطلاع بكل ما يُكتب عني في الصحف الجزائرية. ويؤسفني القول أن كثيرا من المعلومات المنشورة خاطئة. لقد قاربت مدة الزيارة على الإنتهاء عندما لمحت أحد الحراس يطوف بالقرب من طاولتنا وبدأ كثير من السجناء ينهضون من كراسيهم وفعل الخليفة مثلهم تماما حيث لم يتأخر للحظة واحدة في النهوض أيضا مما يوحي بأن موعد الزيارة لا يمكن تمديده ولو بعشر ثواني. حديثنا اقترب من الساعة التي مرت كالبرق كان عبد المؤمن يقفز خلالها من نقطة إلى أخرى يمزج فيها الماضي بالحاضر وشيئا من المستقبل أيضا، مع أنني شعرت بأن الرجل لم يتحدث كثيرا عن المستقبل وعن مشاريعه وكيف يتوقع أن تكون حياته التي قضى منها أكثر من سنة في السجن من دون أن تنتهي محاكمته بعد. ودَّعنا على عجل وهم ّبالعودة مسرعا من حيث أتى باتجاه الزنزانة ولم يستدر لنا إطلاقا. شعرت أن استعجاله للعودة كان ممزوجا بشيء من الحياء والتأوه على فقدان الحرية. نهضنا بدورنا وسرنا باتجاه الباب وما أن جاوزناه حتى أشار إليَّ أحد الحراس بوضع يدي اليسرى تحت مصباح أزرق فظهر ذلك الختم الشفاف الذي لا يُرى مثل الورق الفضي اللامع الذي يوضع على الأوراق النقدية وتأشيرات السفر. والواقع أن الختم كان فعلا تأشيرة سفر وإذن لي بالعودة إلى عالم الأحرار خارج أسوار القلعة التي بنيت العام 1851. لا أخفي أن خروجي من ذلك المكان لم يكن خروج الصحفي المنتصر الذي يحمل سبقا صحفيا. لقد كان خروجا بطيئا هادئا، معكرا بشيء من "مزاج" السجناء لأنني فعلا قضيت ساعة بين السجناء وتحت أنظار السجَّانين ومراقبة عدسات الكاميرات التي لا تمل. والأسوأ من كل ذلك أنني كنت ما أزال محبطا من حجز آلة التصوير التي لم أكن أعلم بأنها محظورة ولم يسعفن الحظ سوى في التقاط صور"سرية" لمدخل مبنى السجن. وقفت لدقيقة مع صديقنا "م" شكرته على خدمته ومجهوده وعلى القهوة التي دفع ثمنها من جيبه على أمل أن نلتقي من جديد. مراسلنا في لندن سامي براهيمي