يخال لكثير من الناس، أن الكتاب يعدّون من الأثرياء، يكسبون مالا وفيرا من مؤلفاتهم كحقوق تأليف. لكن الواقع غير هذا الاعتقاد تماما. فالمؤلف بعيد عن الغنى، بُعد السماء عن الأرض، والمؤلفات الإبداعية لا تُدِرُّ لأصحابها إلا بالنزر القليل جدا، وأحيانا لا شيء، بالأحرى هذا ما كان عليه الحال في السنوات الماضية. كان النشر مضنيا، متعبا ومحفوفا بالمشقة. وكان المؤلف يدفع من حسابه الخاص لينشر رواية أو مجموعة قصصية أو ديوانا شعريا. فمن ابتسم له الحظ، ووجد ناشرا مغامرا لعمله الإبداعي، بعد أن دفع من جيبه تكاليف السحب والتصفيف والتركيب، اعتبر نفسه محظوظا، فغمرته السعادة. ولدرجة غبطته بالنشر، تجده لا يفكر حتى في حقوقه، لأن الكتاب يكفيه فخرا، ويزيده سعادة، ويعوضه عن المقابل المادي الذي يصبح آخر شيء يفكر فيه. فالخسارة المادية، كانت تعوض بالربح المعنوي. ولقلة الأعمال الأدبية التي تنشر آنذاك ( وأتحدث هنا عن مرحلة بداية التسعينيات) كان نشر عمل إبداعي يعد بمثابة حدث يحتفي به الجميع، تقام له الندوات، ولا يمر دون أن يحقق ضجة إعلامية، واهتماما بين المثقفين. حينها كان الحديث يدور حول الإبداع فقط، أما حقوق المؤلف لم يكن يرد ذكرها بتاتا. كان الكتاب أكثر التزاما بقضايا فكرية، والعمل الإبداعي كان مرادفا لنضال من أجل قضية معينة، كانت تصب آنذاك حول أفكار الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان. وغالبية الكتاب كانوا يؤمنون بهذه القضايا الكبرى في زمن الانتقال نحول المرحلة الديمقراطية، لكن هذا حديث آخر. وذلك زمن ولّى، ومجرد ذكرى. شخصيا لم أتلقَّ سوى بضع دنانير عن روايتي الأولى "الانزلاق"، لا تتجاوز الثلاثة آلاف دينار. أما مجموعتي القصصية "حكايات مقهى ملاكوف"، فلم يصلن منها سوى عشرين نسخة إضافية، اعتبرتها كحقوق تأليف، لأن القانون لا يسمح للمؤلف سوى بعشر نسخ، وهذا إجحاف آخر في حقه. لكن الوضع تغير كثيرا في السنوات الأخيرة، منذ أن شرعت وزارة الثقافة، بدعم من رئيس الجمهورية، ضمن تظاهرة الجزائر عاصمة للثقافة العربية، ونشر ما يفوق الألف كتاب، والاستمرار في النشر على نفس هذه الوتيرة لمدة خمس سنوات. وعلى خلاف روايتي الأولى، ذرت لي رواية "مرايا الحقوق" بحقوق محترمة لم أكن أتخيّلها يوما. لقد أصبح بالإمكان الحديث عن حقوق المؤلف، ومداخيل يتلقها الكاتب المبدع بعد نشر أعماله. لم يعد النشر مجرد مغامرة فكرية، ضمن سلسلة كانت تنقصها كثير من المعالم، ولم تكن واضحة وعادلة، لأن الوضع العام تحول إلى صناعة حقيقية للكتاب. والكاتب لم يعد مُغيبا، بل أضحى، لحسن حظه، حاضرا ضمن هذه السلسلة، إذ قبض كل الكتاب الذين نشرت أعمالهم ضمن هذه التظاهرة حقوقا لم يسبق لهم وأن تحصلوا عليها. في السابق لم تبلغ حقوق كاتب يُعتبر من كبار الروائيين الجزائريين، سوى ألفين دينار، بعد سنة من نشر روايته. وسبق لروائي من جيل الثمنيانيات، أن نشر روايتين دفعة واحدة عند إحدى دور الكبيرة، فطلبها بحقوقه، قائلا "أعطوني حقوقي لكي أتبرع بها لليتامى". فضحك صاحب دار النشر، وقال للكاتب إن "حقوقك لا تتجاوز الثلاثة آلاف دينار، خذها وتبرع بها لمن تشاء". فطأطأ كاتبنا رأسه، وعدل عن مشروعه الإنساني الكبير. آنذاك كان الكتاب يدور في حلقة مفرغة، ويبقى على أدراج المكتبات، بعد أن عزف القراء عن شراء الأعمال الإبداعية. أما اليوم فقد تكفلت وزارة الثقافة بشراء ألف وخمسمائة نسخة من كل عنوان نُشر ضمن تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وكذا ضمن مشروع نشر ألف عنوان وعنوان، فتحصل المؤلف على حقوقه كاملة بعد أن تكفل الديوان الوطني لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة بدفعها وفق مقاييس معمول بها دوليا. كما أن الناشر مجبرٌ على دفع حقوق المؤلف، بعد أن تشتري الوزارة النسخَ المتفق عليها. لقد دخل عالم الكتاب مرحلة جديدة، تمتاز بالتنظيم، ويطغى عليها طابع الاحترافية، وهذا بإمكانه أن يخلق دينامكية جديدة، لكن الذي غاب للأسف، هو ذاك النقاش الفكري الذي يصاحب ظهور الكتاب. ولم يعد النشر مرفقا بحركة نقدية، والكتاب أصبح مجرد كلمات فوق ورق أبيض أو أصفر. فهل أصبح الكتابُ من البورجوازيين؟