قبل سنوات مضت، لم يكن أحد من كبار لمحللين أو علماء الاستشراف ليتجرأ ويطلق العنان للخيال ويتصور أن العراق الذي يعد من الدول المركزية والمحورية في المنطقة العربية سيسقط يوما بين براثن الاحتلال الأمريكي ويتحول من دولة تمتلك كل المؤهلات لتحقيق وثبة حضارية إلى دولة تنهشها الطائفية الضيقة والمذهبية المتعصبة، والعمليات الإرهابية المروعة التي تستهدف الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ العزل!! فالعمليات الدموية التي استهدفت العاصمة بغداد الأربعاء الماضي وأودت بحياة العشرات من المواطنين وجرح المئات وخسائر مادية معتبرة تجعل المتتبع لتطورات الأحداث في العراق يتساءل صراحة ما إذا كانت هناك محرقة ستأتي على الأخضر واليابس وعلى كل معالم الحياة في العراق وإفناء شعبه وتحويله إلى مسرح دموي لقوى محلية وجهوية لتصفية حساباتها السياسية وتناقضاتها الفكرية والمذهبية؟ كما أن عمليات الأربعاء الأسود تطرح من جديد دور القوات الأمريكية في حماية الشعب العراقي، فمن غير المعقول أن تخوض الولاياتالمتحدة حربا ضروسا في أفغانستان لحماية الشعب الأمريكي من مخاطر الإرهاب، في حين تبقى قواتها في العراق في موقع المتفرج، أو أنها غير معنية بإزهاق أرواح المئات من الأبرياء العراقيين !! فالولاياتالمتحدة تتحمل كل المسؤوليات عما يحدث اليوم في العراق من قتل ودمار وخراب جراء سياسة بوش الرعناء التي استهدفت إسقاط "الدولة" في العراق من تدمير جيشها وتحطيم مؤسساتها واقتصادها. فالتطورات الخطيرة التي يعيشها العراق اليوم تجعلنا نقف أمام الحقائق التالية: 1- تأزيم الوضع الأمني في العراق ليدفع الشعب العراقي بمختلف شرائحه وتشكيلاته "فاتورة الدم" عن المواقف المشرفة التي وقفها العراق دوما إلى جانب قضايا الأمة العربية والإسلامية وخاصة القضية الفلسطينية. 2- تحويل العراق إلى مسرح لاستنزاف القدرات العسكرية والمالية لدول الجوار في صراعات وهمية وجر إيران إلى المواجهة مع دول عربية تمهيدا لإضعافها وتحسبا لشن حرب عليها. 3- تفكيك العراق إلى كيانات عرقية تحكمها دولة فيدرالية ضعيفة وهشة ونجاح مخطط هذا التفكيك من شأنه أن يعمم على كامل المنطقة من باكستان غربا إلى موريتانيا شرقا. 4- استمرار العنف الإرهابي والطائفي يعطي كل المبررات لاستمرار بقاء القوات الأمريكية في العراق ولو أن إدارة أوباما ترفع شعار الانسحاب لكن الوجود العسكري الأمريكي في العراق سيكون بعيد المدى حتى بعد الانسحاب المزعوم بوضع ترتيبات تجعل من العراق قاعدة عسكرية أمريكية بامتياز. 5- استخدام العراق كورقة ضغط على دول عربية لكسب المزيد من صفقات التسلح بدعوى تهديدات ما يسمى بتنظيم القاعدة ومواجهتها. 6 - زج العراق في دوامة العنف المغلقة، رسالة واضحة إلى كل دول العالم العربي والإسلامي وتحذيرها بأنها ستلقى نفس المصير إذا ما فكرت في "البديل النووي" أو ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل التي تبقى من حق إسرائيل لوحدها ودون منازع !! فهذه الحقائق تبين أن المخططات الجهنمية التي تنتظر العراق الأشم مازالت لم تكشف عن حقيقتها، في الوقت الذي يلتزم فيه المجتمع الدولي بصمت مخجل، والدول العربية لا تجد أحيانا الجرأة حتى للتعبير عن الإدانة خوفا من الولاياتالمتحدة وكأن ما يحدث في العراق شأن لا يعنيها. وبغض النظر عن التواطؤ العربي تجاه المحرقة في العراق، فإن مستقبل العالم العربي لن يذهب بعيدا عما يحدث اليوم وغدا في العراق، وإذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن في العراق من قتل ودمار وخراب، فإن المحرقة ستمتد خارج حدود العراق لتلتهم دولا عربية أخرى مهما كانت علاقاتها مع الغرب وبالتحديد مع واشنطن، ولن يكون وضعها أحسن مما يحدث اليوم في الصومال الذي زُج به هو الآخر في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. فأمام الدول العربية مسؤوليات جسيمة وتاريخية لمد يد العون إلى الشعب العراقي لإخراجه من المحن التي يتخبط فيها، بالتأكيد على ضرورة انسحاب قوات الاحتلال من كل العراق لاسترجاع سيادته وفسح المجال بعدها لمبادرة سياسية عربية لإعادة ترتيب البيت العراقي بكل مكوناته وتمكين المؤسسات الأمنية من أداء دورها من أجل ضمان الشروط الموضوعية للشعب العراقي في تحقيق مشاركة سياسية بناءة وفعالة واختيار ممثليه بكل حرية ونزاهة بعيدا عن الطائفية والعرقية. فالدور العربي في العراق لن ينجح بدعم طرف عراقي ضد طرف آخر، أو بمد السلاح لطرف ضد آخر، وإنما يقوم أساسا على ضرورة وحدة الشعب العراقي وضمان استمرارها وبقائها، وكذلك وحدة التراب والثوابت والأهداف، فوحدة العراق شعبًا وسيادةً سيكون مكسبا للأمة العربية وضامنا لمستقبلها. فلا مستقبل للأمة العربية بلا عراق موحد ومستقل ومستقر، ولا مستقبل لعراق بلا دعم عربي دائم ومستمر!!. الأزهر محمد ماروك باحث جامعي