فيلم ''النخيل الجريح'' لمخرجه وكاتبه ومنجز حواره عبد اللطيف بن عمار سيمفونية سينمائية مشتركة تونيسية جزائرية عزفت على وتر من يكتب حقيقة ما حدث في التاريخ، وعلى يد من تكون هذه الحقيقة أمن خلال الشخصيات المثقفة والكتب والمخطوطات المشبوهة أم من خلال الصورة التي لا يمكن لها إلا نقل حقيقة ما حدث في ذلك الزمان والمكان؟. هذا ما حاول مخرجنا نقله بطريقة سينمائية مفعمة بالكثير من الإحساس والإبداع الفني والتقني المصحوب بالموسيقى التصويرية التي أبدعها الموسيقار الجزائري فريد عوامر بالفيلم الذي عرض سهرة الخميس بافتتاح الدورة ال 64 لمهرجان قرطاج الدولي بتونس للحديث وتسليط الضوء على من استشهدوا في صمت وكبرياء بحرب بنزرت صائفة العام 1691 ليتمتع غيرهم من بقي على وجه هذه الارض ''بفيتو'' الانتصار والكتابة عن التاريخ، لكن''شامة'' (التي ادت دورها الممثلة التونسية ليلي واز) بطلة هذه القصة وابنة النقابي الشهيد ''كمال بن محمود'' أدركت ان الحقيقة غير ما جاء في مخطوط المناضل والمثقف المزيف''الهاشمي عباس'' (ادى دوره الممثل التونسي ناجي ناجح) الذي طلب منها الاكتفاء بكتابه مخطوطه لكنه عندما اكتشف انها ابنة ذلك الشهيد سحب منها المخطوط وهددها بالشرطة التونسية ليجبرها على مغادرة المدينة وعدم الرجوع اليها مرة أخرى، ثم اوهمها بانه توقف عن الكتابة متأثرا باندلاع الحرب في العراق إلا ان الصدفة مكنتها من كشف زوره وبهتانه لتقرر حينها معرفة حقيقة ما حدث لوالدها الذي لازالت والدتها (ادت دورها الممثلة التونسية دليلة مفتاحي) حزينة على استشهاده وعدم معرفة قبره المجهول وما حدث للنخيل الجريح الذي يتوسط ابرز الشوارع الرئيسية لمدينة بنزرت الشاهد المادي الازلي على همجية الاستعمار الفرنسي في حق الشعب التونسي الأعزل الذي كان يطالب برحيل المحتل عن كامل ارضه بعدما استرجعت تونس حريتها العام 6591، الا أن القوات الفرنسية استمرت في التواجد بالمنطقة الاستراتيجية لمدينة بنزرت وقاومها الاهالي وعلى راسهم عمال السكك الحديدية والنقابيون الذين كان من بينهم والد "شامة'' في ظل تقاعس من كانوا يدعون النضال والوطنية. من خلال اللقطات السينمائية المفعمة بجمال الصورة التي اتخذت من ألوان البحر والسماء مصدرا لها وكذا اللقطات المقربة والبعيدة التي تنوعت في أطرها، زواياها، أحجامها وكذا اللقطات الأرشيفية (الابيض والاسود) التي استخدمت بالفيلم، تنقلت كاميرا عبد اللطيف بن عمار بكثير من الذكاء عبر الزمان والمكان من شتاء العام 0991 الى صائفة العام 1691 وهي تصر على التأكيد: ما أشبه هذا بذاك من خلال الاشارة والربط التقني السياسي الذكي وكذا الخلفية الصوتية للاحداث بين فظاعة ما حدث في بنزرت تلك الصائفة وما حدث في العراق العام 1991 دون إغفال الإشارة للعشرية السوداء التي عاشتها الجزائر من خلال العائلة الجزائرية المتكونة من صديقة ''شامة'' المرحة الحزينة ''نبيلة'' (ادت دورها الممثلة الجزائرية ريم تاكوشت) وزوجها الموسيقار ''نورالدين'' (ادى دوره الممثل الجزائري حسان كشاش) اللذين يعيشان في بيت قرب البحر، لجآ لتونس خوفا من الإرهاب الذي كان ينخر جسد الجزائر انذاك وقدما يد المساعدة لشامة لكشف الحقيقة برغم جروحهما الوطنية والذاتية المتمثلة في عدم الانجاب وصعوبة المعيشة، برغم كل هذا يستمتعون بالسماع للموسيقى التي كانت ملاذهم الروحي. ومن أبهج لقطات الفيلم تلك التي صورت بهذا البيت الجميل، كما كانت هناك إشارة تاريخية لافتة وعابرة لهمجية الاستعمار الفرنسي التي مست الشعبين الجزائريوالتونسي من خلال أحداث ساقية سيدي يوسف العام 7591 وهي المنطقة التي كانت تنحدر منها ''السيدة'' (أدت دورها الممثلة الجزائرية عايدة كشود) المرأة التي قالت عن نفسها انها من بقايا ''ورثة كوليت'' صديقة الهاشمي الفرنسية التي استقر في منزلها وكانت تعمل كخادمة لدى المناضل المخادع ''الهاشمي عباس'' وترعى الطفل الصغير الذي ارتبط كثيرا بشخصية ''شاما'' وهو الامر الذي كان يزعج ويحرج الهاشمي. إصرار ''شامة'' على كشف الحقيقة جرها للبحث عن المسكوت عنه والقراءة بين اسطر التاريخ الرسمي الموجود بالكتب من خلال مقارنة ما تجده من صور بما تسمعه من شهادات ممن تبقوا على قيد الحياة من حرب بنزرت خاصة اصدقاء والدها الذين حذروها من زيف ''عباس الهاشمي''. وخلال مسيرة بحثها صادفت ''شامة'' شخصا يمتلك صورا لم يستخرجها بعد وموجودة في شريط محفوظ لتقرر تحميضها فتكتشف ان والدها كان صديقا حميما لهاشمي عباس لتتعقد الحبكة الدرامية بالفيلم وتدخل البطلة في صراع نفسي وشك مضحية بالحب الوحيد الذي صادفته من خلال الشاب''خليل'' ابن احد رفقاء والدها (الممثل الجزائري العربي زكال) الذي ادى دوره المختصر المركز في الاحساس والشعور ببراعة فنية وسينمائية كبيرة في تلك اللقطة السينمائية. "شامة'' بفضل إصرارها ومثابرتها اكتشفت الحقيقة التي واجهت بها '' الهاشمي عباس '' الذي تقاعس عن مساعدة والدها الجريح عندما لجأ لبيته في ليل صائفة العام 1691 للاحتماء من بطش قوات الاحتلال فقتل أمام باب بيت صديقه المثقف ''الوطني'' مدعيا في الكتب التي يكتبها ان الاوامر ليلتها امرته بالعودة الى العاصمة، لكن الحقيقة انه كان بالبيت وتقاعس عن نجدة صديقه كمال بن محمود الذي كان يكن له الكثير من الاعجاب والتقدير، وكان من بين الذين حفزوه على مغادرة عائلته بتونس وابنته شامة كان عمرها اربعة أشهر للمجيئ لمدينة بنزرت للدفاع عنها حيث استشهد فيها الى جانب 0002 آخرين تحت شواهد مجهولة لينتهي الفيلم كما بدأ بمشهد القطار الذي استقلته ''شامة'' للمجيئ لبنزرت وهو يخرج من النفق الى حيث لا ندري على أنغام موسيقى فريد عوامر الرائعة وصوت المطربة التونسية عايدة ولقطة الهاشمي عباس الوطني المزيف وهو على الكرسي المتحرك في اشارة واضحة للعقاب الذي يستحقه امثال هؤلاء. اجمع الذين شاهدوا الفيلم أن تطورا لافتا حدث ويحدث في الكتابة السينمائية للمخرج عبد اللطيف بن عمار بالنظر لأعماله السينمائية الماضية وبالمقارنة على وجه الخصوص بأفلامه السابقة مثل''عزيزة'' ''نغم الناعورة'' وان إصراره على الشراكة السينمائية بينه وبين الفنانين الجزائريين والمنتجة والمخرجة نادية شرابي نابع من منطلق إيمانه باهمية مثل هذه الخطوة السينمائية المغاربية بعيدا عن تغلل الانتاج الاجنبي في انتاجنا السينمائي الذي يتحكم لا محالة في طريقة اخراجنا لصورنا وأفلامنا. كما نوه كل من شاهد الفيلم بتميز الممثلين من البلدين مع ابقاء لهجة كل واحد منهم كما تالق البعض برغم تقلص حجم ظهورهم امام الكاميرا ويشكل خاص الممثل العربي زكال وعايدة كشود. أما حسان كشاش فقد تمكن من الخروج ببراعة من عباءة المخرج الجزائري أحمد راشدي الذي قدم معه دوره الاخير بفيلمه مصطفى بن بولعيد. أما ريم تاكوشت فهي تثبت في كل مرة أنها مختلفة على المرة السابقة. فالذي يشاهدها بفيلم ''عائشات'' لسعيد ولد خليفة أو ''مسخرة'' للياس سالم يدرك أنها تطورت من الناحية التمثيلية وأبرزت قدرة على تحريك مشاعر الفرح والحزن بالمتلقي. اما بقية الطاقم فقد أدى كل الشخصية التي سطرها عبد اللطيف بن عمار ببراعته في تسيير الممثلين وتوجيههم، ما أثمر هذا الفيلم''شارع النخيل الجريح'' الذي سيكون كنخيل مدينة بنزرت علامة فارقة في المشهد السينمائي العربي بشكل عام والمغاربي بشكل خاص ووسام على صدر الشراكة السينمائية التونسيةالجزائرية.