سبق لي أن قدمت كتاب الباحث الفرنسي فريدريك مارتل ''ماين ستريم''، في هذا المنبر. وماين ستريم تعني الثقافة المسيطرة، الثقافة القادرة على إنتاج قيم عالمية بلمسات محلية. وأصبح مصطلح ''ماين ستريم'' رائجا في أوساط المثقفين بشكل لافت للانتباه، ويحيل إلى السيطرة التي تمارسها السينما على مخيلة الشعوب، فالسينما تعني ''ماين ستريم''، لكنني أعتقد أن كرة القدم بدورها عبارة عن ''ماين ستريم'' حقيقية، وهي أكثر تأثيرا من السينما. في العصر الحالي، ومع تراجع دور المثقفين، وانحصار هيمنة الفكر والثقافة، مثلما كان عليه الحال في القرن العشرين، أصبحت كرة القدم ثقافة شعبية تنتج ما تعجز عنه الثقافة، فالتقارب بين الشعوب ونفورها عن بعضها البعض أصبح يخضع بدوره إلى ما يجري في ملاعب كرة القدم، فالأرمن والأتراك مثلا بينهما عداء تاريخي، إلا أن كرة القدم أوجدت بينهما تقاربا غير متوقع البتة. لقد حققت كرة القدم درجة كبيرة من التجانس بين الشعوب، وأصبحت عاملا قويا للحفاظ على الهويات الوطنية، فهي ظاهرة تسير في غير اتجاه العولمة التي تقضي بالعكس على الهويات الوطنية. هذا الاستنتاج الذي يقدمه الجيوسياسي الفرنسي باسكال بونيفاس، يبرز مدى قدرة كرة القدم على التحول إلى ''ماين ستريم''. تاريخ الثقافة المسيطرة، هو تاريخ الرياضة، يسيران وفق خط واحد، كلاهما ارتبط بالتوسع الاستعماري البريطاني. وقد استطاعت بريطانيا أن تصدر الديمقراطية البرلمانية بواسطة الحرب، وكل ما يتعلق بالثقافة الليبرالية، لكنها حملت معها كرة القدم. ودخلت هذه الأخيرة ملاعب المستعمرات بطرق سلمية، جعلت الشعوب الخاضعة للسيطرة تقبل عليها بسهولة تامة. وإذ أخفقت بريطانيا في جعل الديمقراطية الليبرالية ظاهرة كونية، فإنها نجحت في تحويل كرة القدم إلى ظاهرة عالمية، وهنا أصبح العالم قرية كونية صغيرة أصبح فيها زين الدين زيدان أكثر شهرة من الرئيس نيكولا ساكوزي نفسه. كرة القدم التي مكنت زيدان من أن يصبح شخصية وطنية ذات تأثير واسع في فرنسا. وفي المقابل هناك مثقفون كبار من أصول غير أوروبية، ومسلمة بالأخص، لكنها لا تنتج نفس التأثير، وليست في نفس درجة الأهمية. إن السياسة التي تقوم في كثير من الأحيان على النظرة العنصرية، والإقصاء والتهميش، كثيرا ما تؤثر على كرة القدم، بحيث يدور هذه الأيام في فرنسا حديث عن تدخل سياسي في شؤون المدرب ريمون دومينك، الذي اضطر للاستجابة إلى ضغط سياسي أجبره على إبعاد اللاعبين الفرنسيين من أصول مسلمة. وبحسب بسكال بونيفاس دائما فإن كرة القدم تحولت اليوم إلى ظاهرة كونية، لم تعد حكرا على أوروبا وأمريكا الجنوبية كما كان عليه الحال في السابق، بعد أن انتشرت في قارتي إفريقيا وآسيا مع بعض الاستثناءات في الهند وباكستان والولاياتالمتحدةالأمريكية، بحث جاء الاستثناء كرد فعل ضد الهمينة البريطانية، وتجلى رد الفعل في تطوير وتشجيع الرياضة الوطنية المحلية على حساب كرة القدم التي بقيت تحتفظ بطابعها الإمبريالي في الهند وباكستان إلى اليوم. كرة القدم هي الظاهرة الوحيدة التي أوجدت خريطة جيوسياسية مقلوبة، بحيث نجد أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كقوة عظمى لا تظهر بنفس القوة على التأثير والفاعلية، بل البرازيل هي من يؤدي هذا الدور. وبفضل التأثير البرازيلي بملاعب كرة القدم، بإمكان الحديث عن نهج ثقافي ثان ومغاير هو بصدد التكوين والانتشار في أمريكا الجنوبية، لمواجهة المد الثقافي الأمريكي الذي ترفضه البرازيل وفنزويلا هيغو شافيز. وعلى خلاف الثقافة وظاهرة العولمة، فإن كرة القدم لا تقضي على الهويات الوطنية، بل تعمل على تقويتها. وكرة القدم هي اللعبة الوحيدة التي تدعم الإجماع وتحقق التجانس بين كل أفراد الدولة الواحدة بغض النظر عن الاختلافات الاجتماعية والإثنية، فهنا تتوحد الأمة.