لم يسبق للمثقفين الفرنسيين أن ادفعوا وتدخلوا في الشأن ''الكروي'' مثلما فعلوا في المدة الأخيرة. لقد كتبوا مقالات، وألفوا كتبا، وأرادوا أن يجعلوا من الفرجة الكروية مسألة فلسفية مرتبطة بحياة الأمة الفرنسية... حتى أن آلان فينكيلكرولت، الفيلسوف الكبير، كتب مقالا عن ''لمسة يد تيري هنري''، التي أوصلت منتخب ''الديكة'' إلى جنوب إفريقيا... كما كتب جاك آتاي مقالا بعنوان ڤكلنا ايرلنديون''، عبر فيه عن سخطه من انتصار فرنسي عديم القيمة الأخلاقية... وكتب: ''أنا إيرلندي وسأشجع الفريق الإيرلندي من الآن فصاعدا''. ووفق هذا المنحى، خصصت أسبوعية ''لوفويل أوبسيرفاتور'' مقالا حول هذه الظاهرة بعنوان ''الفلسفة في غرف تبديل الملابس''. وكتبت صاحبة المقال ''أودي لونسلان'' أن فلاسفة فرنسا ومثقفيها كلهم يهرولون للكتابة عن كرة القدم، ويسعون لإبداء اهتماماتهم بالمونديال الجنوب إفريقي، الذي وكما يبدو لم يؤد إلى زعزعة ما هو قائم فقط، عبر إقدام منتخبات صغيرة على الإطاحة بعملاقة كرة القدم الأوروبية، بل شارك في دحض تلك الفكرة القائلة بأن كرة القدم عبارة عن أفيون للشعوب.. فالنخب المثقفة لما تهتم بالشأن العام، تزول منه رائحة الأفيون، فهي التي تمنحه بهاءه وبريقه... وإلا كيف يمكن تفسير هذا النهم الكبيرة بالسيدة المستديرة من قبل مثقفين وفلاسفة كبار؟ وكتبت لونسلان أن كرة القدم في فرنسا أصبحت جزءا من الجدل الثقافي الفرنسي. وكان المثقفون الفرنسيون بصدد الخروج من جدل أكثر عمقا وأكثر فلسفية، ارتبط باتهام ميشال أونفري، وهو أحد أشهر الفلاسفة الفرنسيين، مؤسس التحليل النفسي، سيغموند فرويد بالدجل والهرطقة والمولاة للفاشية، وذلك في كتابه الشهير ''نهاية معبود''. كان المثقفون في ما مضى ينامون باكرا، لما تبث القنوات التلفزيونية مباريات كرة القدم، وها هم اليوم يسهرون مثل العوام... يتابعون، يصيحون مطالبين بالأهداف وهز الشباك، ثم يتوجهون الى المقاهي للجدل والنقاش... لقد ولى ذلك العهد الذي كان فيه المثقف عدوا صريحا لمناصري كرة القدم، ورواد الملاعب.. هذا ما استنتجته لونسلان... ولم تعد كرة القدم مرادفة لاستلاب الجماهير... كما أنها لم تعد ظاهرة تغذي الصراعات... وإذا كان الذهاب إلى الملعب لمشاهدة مباراة في القدم يعني في الثمانينيات أمرا شاذا بالنسبة للمثقفين، فإن الأمر قد تغير فعلا... وكم يبدو التغيير بطيئا حتى في الحالة الفرنسية، فقد كان يجب انتظار سنة 1998 وحصول فرنسا على أول لقب عالمي، ليصبح دخول المرأة إلى الملاعب ظاهرة شائعة... وها هم المثقفون يتخلصون بدورهم من عقدة ''الاقتراب من الجماهير'' بواسطة الكرة، ويصبحون مهووسين بالكرة... وطالبين للفرجة. وفي خضم هذه الأجواء الحماسية والوطنية على وقع الرياضة، هرولت كبريات دور النشر الفرنسية بحثا عن مؤلفات تتناول ظاهرة كرة القدم... فتم نشر سبعة كتب إلى حد الآن في انتظار مؤلفات ستصدر لاحقا. ومن أهم المؤلفات التي صدرت هذا الأسبوع نذكر كتاب الباحث في الشؤون الجيو -سياسية باسكال بونيفاس بعنوان ''لماذا كل هذا الحقد؟، (صاحب كتاب سابق بعنوان ''كرة القدم والعولمة''). ويدافع بونيفاس في هذا الكتاب عن اللاعب تيري هنري، ويقول بصريح العبارة إن مواقف المثقفين الفرنسيين من لمسة يده التي أهلت المنتخب الفرنسي إلى مونديال جنوب إفريقيا، اتسمت بالنظرة العنصرية المتعالية. وقال إنها كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، وكشفت عن غيض المناهضين لفريق كرة قدم فرنسي يقوم على التعددية العرقية. واستنتج بونيفاس انطلاقا من قراءته للمسة يد هنري أن كرة القدم أصبحت بمثابة الفضاء الوحيد الذي يقوم على النجاعة الفردية وعلى المساواة. وهو حسبه فضاء ديمقراطي بامتياز. وهذا ما يثير غضب النخب الفرنسية، التي يقول إنها تقوم على نظام مغلق وغير ديمقراطي. ووفق مسار تحول كرة القدم إلى ظاهرة تثير شغف المثقفين، كتبت لونسلان أن كرة القدم مرشحة للتحول خلال السنوات القادمة إلى مجال للصراع الطبقي، بعد أن مسها التحليل الفلسفي والفكري. فهل تتحقق هذه النبوءة؟