منذ عقود والعراقيون ينظرون إلى الجزائر كبلد شبيه ببلدهم، ولكنه لا يقع على مقربة منهم، بل هو بعيد جدا عنهم، ربما أكثر مما ينبغي لتخيل أوجه الشبه المفترض، وقد يشعر الجزائريون بهذا الشبه ويقلبون أوجهه حائرين في مغزاه وأبعاده.في الواقع ثمة الكثير من الأدلة التي تؤيد هذا التصور على مستوى التكوين التاريخي لشخصية المجتمع والبلد على حد سواء، ففي طباع العراقي شيء من حدة طباع الجزائري، وهما يشتركان تقريبا ويتقاسمان نظاما من القيم والأعراف والمفاهيم الاجتماعية قد لا يجدان نظيرا لها في بلدان عربية أخرى مجاورة. كما أن التركيب القبلي يتماثل إلى حد ما مع التركيب العشائري.وفضلا عن ذلك، يبدو البلدان من حيث المساحة الكبيرة التي يشغلانها في الفضاء الجغرافي، وكأنهما ورثا نزعة "جغرافية القوة" التي يمتاز بها المجتمعان والبلدان. ولذلك، يبدو العراق في نظر الجزائري وكأنه "جزائر آسيا" بينما ينظر العراقيون إلى الجزائر وكأنها "عراق شمال أفريقيا".وفي التاريخ السياسي الحديث، تكاملت صورة هذا التشابه مع صعود سلطة الحزب الواحد (القائد) في البلدين، وتفرد جبهة التحرير الجزائرية وحزب البعث العراقي في الحكم. كما أن سياسة "التصنيع الثقيل" التي أطلقها الرئيس الراحل بومدين في سبعينيات القرن الماضي، تجد هي الأخرى شبيها لها في سياسة "التصنيع الحربي" التي أطلقها البعث منذ الفترة نفسها. وعدا ذلك، يمتاز البلدان بكونهما بلدين نفطيين كبيرين.هذا التماثل قد يبدو عرضيا ولا قيمة له، لولا أن الظروف السياسية في البلدين تتجه إلى ما يبدو استكمالا للتشابه متعدد الأشكال والتجليات، فقد سقطت سلطة الحزب الواحد في البلدين، وتلاشى برنامج التصنيع وتفشى الفساد المالي والإداري، ثم غرق البلدان في مستنقع حرب داخلية طاحنة لا تزال مستمرة حتى اللحظة، مُستترة أحيانا ومُعلنة في أحيان أخرى.وكما أن الاضطراب السياسي وتفجر الأعمال الإرهابية وصعود الجماعات الإسلامية المتشددة وبشكل أخص "القاعدة"، كان السمة الأساسية لانهيار سلطة الحزب الواحد في الجزائر (منذ أزمة فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الانتخابات) فقد أصبحت الأعمال الإرهابية في العراق سمة رئيسية طبعت نتائج انهيار سلطة البعث في العراق.والمثير للاهتمام أن الصور الأولى التي شاعت في العالم العربي عن أعمال الذبح الفظيعة (وقطع أعناق الضحايا بوحشية) على أيدي جماعات تزعم أنها "إسلامية" إنما جاءت من الجزائر، حين سقط قرويون مساكين وبدو رحل مضرجين بدمائهم داخل منازلهم، وهي الصور ذاتها التي تكررت في العراق خلال السنوات القليلة الماضية.وبذلك، تكون الأحداث والظروف قد أضافت بعدا جديدا للشبه المفترض. ولهذا السبب قد لا يبدو من دون معنى أن "القاعدة في العراق" راحت تعبر عن مشروعها السياسي بوصفه مشروع "دولة العراق الإسلامية"، بينما عبرت "القاعدة" عن نفسها ومشروعها السياسي في الجزائر بوصفها "قاعدة بلاد المغرب الإسلامي".وثمة وجه آخر للشبه المذهل في المصير التاريخي للبلدين، فقد تفجرت الحياة السياسية على نحو غير مسبوق بعد انهيار سلطة الحزب الواحد، وظهرت أحزاب لا تحصى.وأذكر أن نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية العراقي الأسبق طارق عزيز قال لي قبل سنوات أثناء لقاء جمعني به وبآخرين، وجوابا على تساؤل طرحته عليه، عما إذا كان ثمة وجه شبه في تجربة البلدين السياسية، إن "أكثر ما تخشاه القيادة العراقية أن يصبح العراق مثل الجزائر، وتظهر فيه أحزاب لا تعد ولا تحصى"، وهو ما حدث أخيرا حين ظهر ما يزيد عن 160 حزبا داخل وخارج العملية السياسية.اليوم وبعد سنوات من الاضطراب السياسي وتدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، تكون الجزائر قد اهتدت إلى "نوع من حل" لا يخرجها كليا من الدوامة، ولكنه يبقيها على درجة محدودة من إمكانية الصمود أمام أخطارها، وهو أمر قد يستمر حتى سنوات قادمة.لقد خرجت جبهة التحرير الجزائرية نهائيا من السلطة، وراحت تلعب داخل مساحة ضيقة في الحياة السياسية دورا محدودا وقليل التأثير في مسارها المتعرج، بينما أصبح "رمز قديم" من رموز النظام السابق هو الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، رئيسا للجمهورية ولكن من دون أي تمثيل للجبهة.هذا "النوع من الحل" قد يجد صداه في العراق، مع أنباء متزايدة عن اتصالات و"مناورات" وشائعات تدور في نطاق ما بات يعرف "بالعودة المحتملة للبعث إلى السلطة". وبذلك، يمكن أن يضاف بعد آخر من أبعاد الشبه. فهل يمكن تخيل حدوث "سيناريو حل جزائري" في العراق؟ أولا- ما يلفت الانتباه في درجة التماثل في الأوضاع والظروف والأدوار السياسية للقوى الاجتماعية في البلدين، أن البعث في العراق تحول نهائيا إلى ما يشبه "حزبا إسلاميا" ولكن من دون "تراث نظري" إسلامي.ومع ذلك لا يعدم المرء رؤية الحزب وهو يقول عن نفسه في أدبياته الجديدة، ومع تسمية السيد عزة الدوري أمينا عاما، ودون أدنى حرج من التراث النظري العلماني للحزب وتاريخه، أنه حزب "إيماني" وليس حزبا "علمانيا".لا تمثل هذه القطيعة مع الماضي العلماني بالنسبة للبعث، والتماهي مع الحركات الإسلامية الناشطة في العالم العربي، مجرد تحول عابر فرضته حاجات النضال الوطني، بل هي تعبير عن تحول أعمق حدث في حياة هذا الحزب خلال السنوات العشرين الأخيرة، وبعدما أصبحت مسألة خسارته للسلطة أمرا محتوما نتيجة لسياساته الفاشلة وحروبه ومغامراته الرعناء وتزايد الضغط الأميركي، خصوصا بعد غزو الكويت.بيد أن هذا التحول يعكس مع ذلك، استعداد البعث للقبول بأي نوع من البقاء في الحياة السياسية وبأي ثمن، بل واستعداده لتقديم البرهان على قدرته على التكيف مع التبدل الهائل في السياسات الدولية. وفي القلب من هذا التبدل، زحزحة القوى القومية عن السلطة واستبدالها بجماعات إسلامية. ولعل الأمثلة كثيرة في هذا النطاق، فهناك أحزاب وقوى وجماعات إسلامية أصبحت اليوم في السلطة التي كانت في أيدي القوميين (من إيران وتركيا حتى الصومال فالعراق). بكلام آخر، لم تكن الحملة الإيمانية الكبرى سوى تعبير عن قراءة البعث لهذا النوع من التحول في السياسات الدولية، وما مسارعته إلى التكيف معها إلا بهدف "العودة إلى السلطة" وإنْ كحزب إسلامي.ولعل قراءة متمعنة في الأدبيات الإسلامية للبعث ستكشف حدود ومغزى هذا التحول في عقيدة الحزب. لقد حدث التحول في نهاية السبعينيات مع إطلاق "الحملة الإيمانية الكبرى" التي قادها الرئيس الراحل صدام حسين وهدفت إلى "أسلمة" حزب البعث، ثم تواصلت هذه الأسلمة بأشكال ودرجات مختلفة مع تعريف البعث لنفسه خلال السنوات الست الماضية "كقائد للجهاد والمجاهدين".بهذا المعنى يكون البعث قد تقمص دور "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" الجزائرية، وفي الآن ذاته يريد ويرغب وهو مستعد كذلك لتقمص دور جبهة التحرير الوطني الجزائرية (وهما معا خارج السلطة اليوم).بكلام آخر، سيكون البعث مرغما على قبول المعادلة الجديدة المعقدة التالية: قد يكون الحل العسكري مع الأميركيين (أي حل القوة والصراع العنيف) ممكنا على امتداد سنوات أخرى قادمة، ولكن الحل السياسي مع العراقيين (أي حل التناقضات سلميا بين القوى المتخاصمة) هو الحل الذي لا مناص منه اليوم، إذ لن يكون بمقدوره بعد الآن التخلص من خصومه والمختلفين معه بالقوة.ولذلك، سيجد البعث نفسه عاجلا أم آجلا أمام المخرج الوحيد المتاح: الحل السياسي، وقد يكون الخيار الجزائري خيارا ممكنا. ثانيا- إن درجة الاضطراب ومستوى العنف المتبادل بين الأجهزة الحكومية وخصومها "الإسلاميين المتطرفين" في بلدين متشابهين، يمكن أن تفرض حلا مُشابها أو قريب الشبه.وفي حالة العراق ليس من المستبعد أن تؤدي الظروف إلى صعود "بوتفليقة عراقي" إلى سدة رئاسة الوزراء مثلا، أي أن يفضي التقارب والتوافق في المرحلة المقبلة بين قوى عربية وإقليمية ودولية إلى تسمية مرشح بعثي سابق أو حالي، ولكن على استعداد للعب دور لا صلة له بالحزب كرئيس للوزراء.سيبقي "الحل الجزائري" في حال اعتماده من جانب القوى الدولية والإقليمية البعث "المتأسلم" خارج السلطة نهائيا، ولكنه سيتيح للبعث في الآن ذاته إمكانية أن يتمثل من خلال "رمز قديم" من رموزه، وذلك تعبيرا عن التقدم على طريق المصالحة والحل الانتقالي.وفي هذا النطاق يمكن أن تتحدد مواصفات بوتفليقة العراقي في سمات عامة أساسية، كأن يكون شيعي المذهب -إيمانيا لا علمانيا- وبعثيا قادرا على تقديم البرهان القاطع على استعداده لاختصار واختزال بعثيته في حدود التمثيل الرمزي لحزبه.وبذلك تتحقق إمكانية أن لا يعود البعث إلى السلطة، وفي الوقت ذاته منحه فرصة قيادة السلطة رمزيا، وفي جغرافيا محدودة لا تتعدى بغداد (ما دامت كل مناطق الشمال والجنوب ستظل في أيدي جماعات قوية معادية له). ثالثا- وفي هذا النطاق أستطيع أن أكشف عن اتصالات يجري الترتيب لها بين البعث وطهران بضغط من الرياض من أجل التوافق على بوتفليقة عراقي يقود مرحلة انتقالية طويلة نسبيا.لقد طرح الإيرانيون في المراحل التمهيدية والاستكشافية -التي تركزت حول مرحلة ما بعد المالكي- مرشحهم القوي عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية، بوصفه المرشح النموذجي (شيعي المذهب، وبعثي سابق، ويساري سابق، وإسلامي مقرب من الأميركيين)، في حين سعى البعث إلى تسويق مرشح بالمواصفات الإيرانية الأميركية.إن المضمون الحقيقي للاتصالات عالية المستوى التي يجري الترتيب لها، يكمن في هذا الجانب من "شبه الحل الجزائري" لمأزق العراق السياسي.ولعل الرسالة الصوتية الأخيرة التي بثتها محطة الجزيرة الفضائية للسيد عزة الدوري خلال أحداث غزة، وأكد فيها -وهو يخاطب الرئيس الأميركي أوباما- استعداد الحزب لحماية مصالح الولاياتالمتحدة في العراق والمنطقة (في حال انسحاب القوات)، هي تعبير بليغ عن الاتجاه الذي تسير فيه عملية "استنساخ الحل الجزائري".الإيرانيون عبر هذا الحل يأملون أن يكف البعث عن أوهامه "بالعودة إلى السلطة"، في حين يأمل الأميركيون أن يؤدي الحل الجزائري إلى بدء مرحلة انتقالية طويلة للعراق (يعيش خلالها ما يشبه حربا أهلية مُستترة وما يشبه استقرارا هشا).أما البعث فخياراته قليلة قد لا تتعدى تمثيلا رمزيا يلعب فيه مرشحه لرئاسة الوزراء دور والي بغداد الضعيف.يقال إن الطبخة تحترق حين يتزايد عدد الطباخين.. ما أدرانا؟ قد لا تحترق.