فهمي هويدي أما وقد أصبحت العودة إلى لعبة المفاوضات المباشرة خبر الساعة، فلا خير فينا إذا لم نعلن على الملأ أن دول الاعتدال العربي أصبحت تؤدي دور «المحلل» لتنفيذ الإملاءات الإسرائيلية والأميركية في القضية الفلسطينية على وجه الخصوص 1. نشرة أخبار الساعة تظل مبتورة وناقصة إذا وقفت عند قرار لجنة المبادرة العربية إعطاء الضوء الأخضر للعودة إلى المفاوضات المباشرة. ذلك أنها حين اجتمعت يوم الخميس الماضي (29/7) وأهدت قرارها إلى السيد نتنياهو، فإن الرجل لم يجامل، ورد الهدية على الفور بثلاثة إجراءات هي: * هدمت الجرافات الإسرائيلية قرية «العراقيب» في منطقة النقب على ما فيها من بيوت الصفيح والأشجار وسوتها بالأرض، وشردت المئات من البدو الفلسطينيين الذين يسكنونها منذ مئات السنين، وقالت التقارير الصحفية إن السلطات الإسرائيلية خططت لإقامة حديقة مكانها، ضمن مشروع لتوسيع مدينة بئر السبع التي يسكنها اليهود، وكانت السلطات الإسرائيلية قد طلبت من سكان القرية الرحيل في شهر فيفري الماضي، باعتبار أن سكانها ضمن 70 ألف عربي يعيشون في قرى لا تريد الاعتراف بها. وحين احتج سكان العراقيب واشتبكوا مع الشرطة، فإن الجرافات الإسرائيلية اخترقت أراضيها ودمرت منتجاتها الزراعية، وأنذر السكان بأن عليهم الرحيل من موطن أجدادهم والسكن داخل المدينة المجاورة، وإزاء إصرار السكان على التمسك بالأرض، صدرت التعليمات بهدم البيوت واقتلاع الأشجار في القرية. وهو الإجراء الذي تم تحت حراسة 1300 جندي. ليلة اجتماع لجنة المبادرة استولىمستوطنون إسرائيليون على مبنى من طابقين في حارة السعدية بالبلدة القديمة قرب المسجد الأقصى. يضم المبنى 11 غرفة يسكنها 50 فردا من عائلة قرش، التي تعيش في المنزل منذ عام 1936، وكان أغلب سكانه قد ذهبوا إلى عرس قريب لهم. وفي غيابهم اقتحمه المستوطنون، فكسروا أبوابه وتحصنوا في غرفه تحت حماية الشرطة، وبذلك وصل عدد المبانى التي استولى عليها المستوطنون في حارة السعدية إلى خمسة مبان، تطل جميعها على المسجد الأقصى وتعد ضمن نطاقه. حاتم عبد القادر وزير القدس الأسبق في الحكومة الفلسطينية قال: إن المستوطنين استولوا حتى الآن بحيل مختلفة على 75 عقاراً في القدس. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد عمدت من خلال تطبيق قانون أملاك الغائبين على أراضي 500 قرية فلسطينية، وعلى عقارات أخرى في مدن عربية مثل يافا وحيفا، وأعلنت أن القانون لا ينطبق على القدسالشرقية. لكنها عدلت عن هذا الموقف خلال السنوات الأخيرة التي جرت خلالها محادثات «السلام» مع السلطة الفلسطينية. بعد ساعات قليلة من اجتماع اللجنة قامت إسرائيل بغارة على غزة، قتلت فيها عيسى البطران، قائد كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس. وكان الإسرائيليون قد قتلوا زوجته وخمسة من أبنائه أثناء العدوان على القطاع. وتسببت الغارة في إصابة 11 فلسطينيا بإصابات مختلفة. رسالة الإجراءات الثلاثة واحدة، إذ هي تقول بوضوح إن السياسة الإسرائيلية ثابتة ولا تغيير فيها، حيث تمضى في مسار مغاير ومختلف عن مسار المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة. بما يعنى أنه لا علاقة بين ما يدور في قاعات المفاوضات وبين ما يجرى على الأرض، إذ المطلوب أن يواصل الفلسطينيون الثرثرة في الاجتماعات وعبر الفضائيات، في حين يستمر الإسرائيليون في تغيير خرائط الواقع. الرسالة ليست جديدة، تشهد بذلك خبرة سبعة عشر عاما من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية (منذ توقيع اتفاقية أوسلو في عام 1993)، التي في ظلها تضاعف عدد المستوطنين، وتمددت المستوطنات في الضفة الغربية حتى أصبحت تسيطر عمليا على 42٪ من أراضيها، وفق تقرير أصدرته منظمة «بتسليم»، وأصبح يعيش فيها نحو نصف مليون مستوطن، أكثر من 300 ألف منهم يعيشون في 121 مستوطنة ونحو 100 بؤرة استيطانية. أما الباقون فيعيشون في 12 مستوطنة مقامة على الأراضي التي ضمت إلى نفوذ بلدية القدس. في الوقت ذاته، شرعت في إقامة السور العازل الذي يفترض أن يكون بطول 730 كلم وأن يقتطع نصف أراضى الضفة. وشنت إسرائيل عدوانها الوحشي على قطاع غزة، الذي أدى إلى قتل 1400 شخص وإصابة 5000، كما أدى إلى تدمير بنيتها التحتية. وفي الوقت الذي تحتفظ فيه إسرائيل بنحو عشرة آلاف أسير فلسطيني كرهائن، فإنها استصدرت أمرا عسكريا بطرد أبناء غزة من الضفة (نحو 10 آلاف) وطردت ألفا، كما تعد الآن لاندفاعة قوية في التوسع الاستيطاني مع بداية شهر أكتوبر المقبل، فور انتهاء مهلة التجميد الجزئي الوهمي في 26 سبتمبر، حتى ذكر كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات في تصريح نشر في 16 جويلية الماضي أنهم بصدد بناء 20 ألف وحدة استيطانية حتى عام 2020. في الوقت ذاته أعلنت لجنة التخطيط التابعة لبلدية القدس عن «الخريطة الهيكلية للقدس الموحدة»، وهي الأوسع منذ احتلال القدسالشرقية في عام 1967. وتشمل الخريطة الجديدة إعادة تخطيط وبناء القدس الموحدة، التي ستحل محل الخريطة القديمة للمدينة وبما يؤدي إلى ضم كل الأحياء الاستيطانية التي أقيمت على الأراضي الفلسطينية إليها، وطبقا لما ذكرته صحيفة هآرتس في 28 جوان الماضي، فإن إقرار هذه الخريطة سيضفي شرعية على ضم أحادي الجانب للقدس الشرقية إلى تخوم إسرائيل. وهو ما لم تجرؤ عليه طوال الخمسين عاما الماضية. هذه الخلفية تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لها هدفان لا ثالث لهما، أولا: انتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات من الفلسطينيين، وثانيا: إتاحة أطول فسحة ممكنة لتغيير الخرائط الجغرافية على الأرض وإنجاز تهويد القدس، بما ينسف عمليا أي أمل في إقامة الدولة الفلسطينية التي يتشدق بها الجميع. وهذا الذي نقوله ليس اكتشافا وليس فيه سر، ولكنه الحقيقة التي لم يعد أحد من المنصفين يختلف عليها، بل إن بعض رجال السلطة أنفسهم باتوا يتحدثون صراحة عن عبثية المفاوضات وعقمها، واليأس من جدواها، ولأبو مازن تصريح أدلى به أمام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في 03 سبتمبر الماضي، حين أثير موضوع المفاوضات غير المباشرة، قال فيه إنه لا يتوقع شيئا من تلك المفاوضات، وهو ذات المعنى الذي عبر عنه تيسير خالد عضو اللجنة التنفيذية، حين اعتبر تلك المفاوضات «مضيعة للوقت»، لكنهم مع ذلك ذهبوا إلى المفاوضات غير المباشرة لأن الإدارة الأمريكية أرادت ذلك، وكلفت السيناتور جورج ميتشيل للقيام باللازم في هذا الصدد. وقتذاك، خلال شهري أفريل وماي أيار الماضيين، كان القرار الأمريكي أن تستمر المفاوضات غير المباشرة مدة أربعة أشهر، تنتهي في شهر سبتمبر المقبل، وإذا حققت تقدما أو نجاحا يتم الانتقال للمفاوضات المباشرة، لكن أكثر من مفاجأة حدثت خلال تلك الفترة. فبعد 20 زيارة للمبعوث الأمريكي لم تحقق المفاوضات تقدما يُذكر، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي طلب لحسابات داخلية تتصل بوضع الائتلاف الحكومي الانتقال إلى المفاوضات المباشرة. قبل أن ينتهي الأجل الذي تحدد لإنهاء التجميد الجزئي لبناء المستوطنات. وفوجئنا بأنه سافر إلى واشنطن ونجح في إقناع الرئيس الأميركي بذلك، بل وأقنعه أيضا بأهمية الانتقال إلى تلك المفاوضات قبل شهر من الموعد المقرر سلفا. أي في شهر أوت وليس سبتمبر، وفي ظروف التوتر التي يعاني منها الرئيس أوباما، القلق على نتائج انتخابات الكونغرس النصفية في نوفمبر المقبل، والحريص على إرضاء اللوبي اليهودي في بلاده، فإنه سلم لنتنياهو بما أراد، وبعث في 17 جويلية الماضي بخطاب إلى أبو مازن أقرب إلى الإنذار طلب فيه -أمره في الواقع- الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، في مطلع شهر أوت الحالي. تضمنت الرسالة 16 بندا علا فيها صوت الترهيب وقلت فيها إشارات الترغيب. إذ ذكر في أحد بنودها أن أوباما «لن يقبل إطلاقا رفض اقتراحه الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، وأنه ستكون هناك تبعات لهذا الرفض» تتمثل في «انعدام الثقة بالرئيس عباس والجانب الفلسطيني، بما يرتب تبعات أخرى على العلاقات الأميركية الفلسطينية، تمس الموقف من الدولة الفلسطينية ومن تمديد تجميد الاستيطان». وفي هذا الصدد أفادت الرسالة أن أوباما سيساعد الفلسطينيين على إقامة دولتهم، ولن يقدم لهم أي مساعدة في حالة الرفض. وردا على الموقف العربي الذي عبر عنه السيد عمرو موسى، ودعا فيه إلى اللجوء للجمعية العامة إذا فشلت المفاوضات غير المباشرة، فإن الرئيس الأميركي قال بوضوح إنه يرفض الفكرة ولن يقبل باللجوء إلى الأممالمتحدة. لم تشر الرسالة إلى الانسحاب الإسرائيلي إلى ما وراء خطوط عام 67، وإنما تحدثت عن «التعامل» مع الأراضي المحتلة في ذلك الوقت، كما أنها خلت من الحديث عن رفع الحصار عن غزة، وأشارت إلى أن طلب الرئيس عباس بهذا الخصوص قد تحقق في شكل كبير. الخلاصة أن الرسالة بدت مسكونة بالابتزاز والوعيد، الذي وصل إلى حد التهديد بعزل الفلسطينيين إقليميا ودوليا وقطع المساعدات المالية عنهم، إذا هم رفضوا الانتقال إلى المفاوضات المباشرة. وهذا ما عبرت عنه الدكتورة حنان عشراوي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في تصريح نقلته على لسانها وكالات الأنباء يوم السبت الماضي 31 جويلية. كيف تحولت الإرادة الإسرائيلية إلى ضوء أخضر وغطاء عربي وفرته لجنة المبادرة العربية؟ هذه المهمة قامت بها دول «الاعتدال» العربية. إذ بعد اجتماع نتنياهو مع الرئيس أوباما في واشنطن قبل منتصف جويلية الماضي، فإن الرئيس الأميركي بعث برسالته إلى أبو مازن في 17 جويلية. في يوم 18 جويلية اجتمع نتنياهو بالرئيس مبارك الذي اجتمع بدوره مع أبو مازن في اليوم التالي مباشرة ثم التقى العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز. واجتمع مع وزير خارجية الأردن، في حين ذهب نتنياهو إلى عمّان للقاء العاهل الأردني عبد الله الثاني. هذه الاتصالات التي تمت بين أركان «الاعتدال»، كان موضوعها الأساسي هو الانتقال إلى المفاوضات المباشرة استمرت عشرة أيام. وفي اليوم الحادي عشر (29 جويلية) اجتمعت لجنة المبادرة في رحاب الجامعة العربية، وأعطت الضوء الأخضر ووفرت الغطاء العربي للانتقال إلى المفاوضات المباشرة. و«تصادف» أن عقد الاجتماع في الأجل الذي حدده الرئيس أوباما في رسالته، حين «توقع» أن تبدأ تلك المفاوضات في مطلع الشهر الجاري، ومن ثم أصبح بوسع أبو مازن -الذي قالت التقارير الصحفية إنه لم يكن معارضا لتلك النقلة- أن يدعي أنه يستند إلى «إجماع عربي». أعجبني تعليق على فكرة المفاوضات المباشرة كتبه زميلنا الأستاذ عبد الوهاب بدرخان، وقال فيه: المسألة بالغة التعقيد. فالمطلوب مفاوضات غير فاشلة وغير ناجحة في آن. لأن الفشل يفاقم صعوبات محمود عباس فيما النجاح يطيح حكومة نتنياهو. والمطلوب مفاوضات تعزز وضع السلطة الفلسطينية مع الحفاظ على الانقسام بين الضفة والقطاع. والمطلوب تحسين نوعي للأوضاع في الضفة، مع استمرار اليد العليا للاحتلال وعسكره ومستوطنيه، والمطلوب عدم حسم ملفات الحل النهائي. فلا إسرائيل جاهزة للسلام، ولا المفاوض الفلسطيني يستند إلى سلطة تغطي كل مناطقه وجميع شعبه. والمطلوب معاودة توسيع الاستيطان لقاء إزالة بعض الحواجز وإتاحة بعض التسهيلات، لكن مع مواصلة إذلال المواطنين الفلسطينيين وإهدار كراماتهم، كذلك مواصلة هدم البيوت وإنفاذ قرارات الإبعاد، وطبعا مع استمرار حصار غزة. كما أن المطلوب فلسطينيا وعربيا عدم المساهمة في الحملات الدولية المتعلقة باتهام إسرائيل بجرائم حرب وقرصنة وجرائم ضد الإنسانية (الحياة اللندنية 15 جويلية). لقد ذهب الجميع راضين أو مرغمين إلى المفاوضات المباشرة، لأنه لم يكن لديهم خيار آخر يستطيعون أن يراهنوا عليه. وطالما انطلقوا من هذا الموقف، فقد كان عليهم أن يدفعوا ثمن الوهن الذي ارتضوه والإفلاس الذي أشهروه. وحتى إشعار آخر، فإنهم لا يملكون سوى أن يديروا خدهم الأيسر كلما تلقوا صفعة على الخد الأيمن، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة