أبدت إيران اهتماما ملحوظا ومضاعفا تجاه أزمة الحصار المفروض على قطاع غزة حتى قبل فترة طويلة من اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع في أواخر شهر ديسمبر 2008، وأضحت غزة مع مرور الوقت أحد أهم الأوراق السياسية التي تمتلكها إيران في الوقت الحالي وتستطيع التفاوض حولها مع إدارة الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما" الذي دعا إلى إجراء حوار غير مشروط مع إيران وإشراكها في تسوية الملفات الإقليمية الساخنة، لا سيما ملف التسوية السلمية في الشرق الأوسط. أهمية ورقة غزة بالنسبة لإيران تكمن في أن الأخيرة رأت أن التطورات السياسية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط أنتجت تداعيات سلبية نالت مصالحها وطموحاتها في لعب دور مميز في صياغة الترتيبات الإقليمية في المنطقة.فقد اضطرت إيران إلى القبول الضمني للاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية في مطلع شهر ديسمبر الماضي على عكس موقفها الرافض بشدة لتلك الاتفاقية في الأشهر السابقة لتوقيعها، باعتبارها تتضمن تهديدا للأمن والمصالح القومية الإيرانية.ورغم أن إيران منحت ضوءا أخضر لحلفائها في لبنان لتمرير اتفاق الدوحة في مايو 2008، فإن نتائج هذا الاتفاق، حتى إن بدت لصالح المعارضة، فسوف تفرض حتما سقفا وحرية حركة وهامش مناورة محدودا ربما يؤثر على نفوذ إيران وعلاقاتها مع حلفائها في لبنان.وفي أفغانستان تحمل تطورات العملية السياسية جوانب سلبية عديدة بالنسبة لإيران، لجهة محاولات إشراك حركة طالبان، عدو إيران اللدود، في معادلة الحكم الجديد في كابول. مكاسب متعددة ولذا وجدت إيران الحرب الإسرائيلية على غزة مناسبة حاولت من خلالها اكتساب أرضية جديدة على حساب خصومها من خلال توجيه انتقادات واتهامات لاذعة لدول المنطقة بسبب مواقفها من الحرب، والضغط على قيادات "حماس" في الخارج (زار كل من علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى وسعيد جليلي الأمين العامل للمجلس الأعلى للأمن القومي دمشق والتقيا قيادات حماس هناك في الأسبوع الأول من يناير 2009، والثالث على بدء الحرب) لرفض المبادرة المصرية لوقف إطلاق النار والعودة إلى التهدئة، انتظارا لإنضاج الظروف التي تتوافق مع مصالح إيران في المنطقة، وبالتحديد اختبار ما ستقدم عليه الإدارة الأمريكيةالجديدة من مبادرات تجاه إيران، وعندها يمكن تمرير الموافقة على مبادرات التهدئة كما حدث في اتفاق الدوحة اللبناني.كذلك بدت إيران مطمئنة إلى أن الحرب على غزة سوف تضع مزيدا من العراقيل والتعقيدات أمام عملية التسوية السلمية، خصوصا مع تصاعد الدعوات لوقف التطبيع مع إسرائيل وتجميد مبادرة السلام العربية التي رفضتها إيران.وما يزيد من حاجة إيران إلى مفاقمة هذه التعقيدات في وجه عملية التسوية أن الرئيس الأمريكي الجديد "باراك أوباما" أعلن عزمه تنشيط عملية السلام في الشرق الأوسط فور تسلمه منصبه، كما أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون أكدت أن عملية السلام في المنطقة سوف تشكل أحد أهم أولوياتها في المرحلة القادمة.وبدون شك فإن وجود عراقيل إضافية أمام عملية التسوية يكسب دور إيران أهمية وزخما خاصا، ذلك أنها سوف تمثل ممرا حتميا، من خلال علاقاتها القوية مع حماس وفصائل المقاومة الأخرى، لأي اتفاق سلام أو تهدئة بين إسرائيل والفلسطينيين، كما أن زج عملية التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل في أجواء بالغة التعقيد والتردي بعد العدوان الوحشي على غزة سيضيق من حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس ويفرض عليه خيارات ضيقة سوف تجبره إما على التراجع عن الاستمرار في عملية التفاوض أو التسليم بإرادة إيران وحليفتها حماس.فضلا عن ذلك، تعتقد طهران أن الحرب على غزة أجهضت المحاولات الحثيثة التي تبذلها دول ما يسمى بمعسكر "الاعتدال العربي" ممثلة في مصر والسعودية والأردن ومعهم السلطة الفلسطينية، لإقناع حركة حماس بجدوى السلام واتفاقيات أوسلو، تمهيدا لتحقيق الهدف الأكبر والأهم، وهو التضييق على نفوذ إيران في المنطقة وتقليم أظافرها الإقليمية.وربما يكون أحد أهم مكاسب إيران من الحرب الإسرائيلية على غزة توفير مبرر عملي للضغط على سوريا ودفعها إلى التراجع عن مفاوضاتها غير المباشرة مع إسرائيل، والتي كادت أن تتحول إلى مفاوضات مباشرة بوساطة تركية قبيل الحرب مباشرة، وبالطبع فإن إجهاض مساعي التسوية بين إسرائيل وسوريا يصب في صالح إيران في ظل إدراكها أن هدف المفاوضات هو فك تحالف سوريا مع إيران وكل من حزب الله وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين.وكل هذه العوامل تقود إلى اشتعال الصراع في المنطقة، وهو ما يشغل الإدارة الأمريكيةالجديدة من وجهة نظر إيران، وهو ما قد يمنحها مزيدا من الوقت للإفلات ببرنامجها النووي دون فرض مزيد من العقوبات والضغوط الدولية عليها في الفترة المقبلة. انعكاسات سلبية لكن هذه المكاسب ربما تكون مؤقتة وسرعان ما سيخفت مفعولها مع مرور الوقت، بل يمكن القول إن مخاطر عديدة ستكون في انتظار إيران بعد هدوء الأوضاع نسبيا في الشرق الأوسط، فقد وضعت الحرب الإسرائيلية على غزةإيران أمام اختبار صعب، لأنها حاولت، قبل نشوب الحرب، المزايدة على أزمة الحصار الذي فرض على قطاع غزة، من خلال توجيه انتقادات لاذعة إلى بعض القادة والرؤساء العرب بسبب مواقفهم من أزمة الحصار، ونظمت إيران العديد من التظاهرات شارك في بعضها الرئيس أحمدي نجاد ورئيس مجلس الشورى علي لاريجاني، ونددت طهران ب"الصمت" الذي تلتزمه الدول العربية تجاه الحصار على غزة متهمة بعض الرؤساء العرب بالتآمر على غزة مثلما تآمروا على لبنان خلال العدوان الإسرائيلي عام 2006، كما تعرضت مصالح بعض الدول العربية، لا سيما السعودية والمصرية، لهجمات في طهران.وعندما وقعت الحرب الإسرائيلية على غزة وجدت إيران نفسها على مفترق طرق صعب، فهي إن صمتت إزاء ما يحدث في قطاع غزة من انتهاكات واسعة بحق الفلسطينيين؛ فإنها تخاطر بفقدان رصيدها لدى الفلسطينيين خصوصا حركة حماس التي تعول عليها في مواجهة الضغوط الفلسطينية والعربية والدولية التي تتعرض لها، وهى إن حاولت التدخل لمساعدة حماس في مواجهة الهجوم الإسرائيلي؛ فإن ذلك يعنى أنها تخاطر برفع منحنى التوتر والاحتقان إلى أقصى حد، وربما تتطور الأمور إلى نشوب مواجهة عسكرية كبرى في المنقطة، باتت إيران في أمس الحاجة إلى تجنبها في الوقت الحالي، كما أن احتمال الدفع بحزب الله لفتح جبهة ثانية ضد إسرائيل لم يعد ممكنا في ظل حسابات سياسية داخلية معقدة أصبح الحزب طرفا فيها، وفي ظل حسابات إقليمية ودولية تأكدت كلها في اتفاق الدوحة الذي أنهى الأزمة السياسية اللبنانية، وعبر عن شبكة من التوافقات الإقليمية والدولية الضامنة للاستقرار في لبنان.ومن تداعيات تضارب المواقف العربية والإقليمية يتضح أن الموقف الإيراني من الأزمة سوف يكرس الخلافات الإيرانية مع الدول العربية الرئيسية (مصر والسعودية) وسوف يدفع هذه الدول إلى الدخول على خط مواجهة طموحات إيران النووية والإقليمية، في وقت تبدو فيه إيران في أمس الحاجة إلى مساندة القوى الإقليمية في مواجهة المحاولات التي تبذلها الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي لإجبارها على وقف برنامجها النووي.وربما تسعى هذه الدول إلى محاولة مزاحمة إيران في الملفات الإقليمية المختلفة لتقليص نفوذها ومكانتها الإقليمية، وهو ما يبدو جليا في الملف الأفغاني على سبيل المثال، إذ يشهد تدخلا سعوديا ملحوظا بهدف إشراك حركة طالبان في معادلة الحكم، بما قد يهدد إيران بفقدان تأثيرها السياسي في كابول.كذلك فإن الهجوم الإسرائيلي على غزة ورغم أنه أحبط المساعي السورية لإجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل لاستعادة هضبة الجولان، خصوصا مع تأكيد تركيا على أن الحرب على غزة أجهضت مساعي التسوية، وإعلان الرئيس السوري بشار الأسد خلال قمة غزة التي عقدت في الدوحة يوم 16 يناير 2009 عن وقف المفاوضات مع إسرائيل، فإن هذا القرار ربما يكون مؤقتا، وسرعان ما ستعود المفاوضات إذا توافرت ظروف أكثر ملاءمة، وهو ما أكد عليه وزير الخارجية السوري وليد المعلم عقب انتهاء قمة الدوحة بقوله: "إن مبادرة السلام العربية لن تلغى بل ستجمد في انتظار توافر ظروف أفضل".وبالتالي تظل احتمالات عودة سوريا إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل قائمة، بل قوية في ضوء حقيقة أن قضية الجولان تمثل مصلحة عليا بالنسبة لسوريا، ومن ثم فإن أي مبادرة لفتح هذا الملف سوف تلقى ترحيبا من جانب دمشق التي سبق أن وافقت على المشاركة في اجتماع "أنابوليس" في نوفمبر 2007، رغم التحفظ الإيراني، لأنه أدرج ملف الجولان على جدول المباحثات، كما استوعبت كل الضغوط التي فرضتها عليها طهران ونجحت في فتح قناة غير مباشرة مع إسرائيل برعاية تركية.. زد على ذلك أن اتجاه سوريا لإجراء مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل كان أحد الأسباب الرئيسية في حدوث انفتاح دولي عليها بدا جليا في الزيارات المتعددة التي قام بها مسئولون أوروبيون لدمشق كان على رأسهم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وزيارة الرئيس السوري بشار الأسد لباريس للمشاركة في اجتماع "الاتحاد من أجل المتوسط" في يوليو 2008.وحتى في حالة حدوث تراجع في مفاوضات التسوية بين سوريا وإسرائيل فإن ذلك لا يضمن عودة سوريا إلى أحضان إيران، خصوصا أن التحالف الإيراني السوري ليس من النوع شديد الصلابة؛ لأن التناقضات بين طرفيه ليست قليلة، كما أن بعضها قل أن يكون ثانويا بالمعنى الدقيق، أو قل أن يبقى هامشيا في الفترة المقبلة، بفعل التطورات المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.وإلى جانب ذلك، لا يعني تعويل إيران على انشغال إدارة أوباما في معالجة الأزمة المالية وترميم علاقات واشنطن على الساحة الدولية، فضلا عن الوصول إلى تسوية سلمية في الشرق الأوسط، إفلات إيران ببرنامجها النووي، إذ ستبقى طهران محل النظر الأول لإدارة أوباما، خصوصا أن فريقه للأمن القومي يمكن أن يدفع نحو مقاربة أكثر تشددا مع إيران، فهيلاري كلينتون وزيرة للخارجية (بدرجة رئيس للجمهورية أو ستكون بمثابة الرئيس الخارجي للولايات المتحدة) تتمتع بهامش تفرد في صياغة توجهات السياسات والعلاقات الخارجية، ولا تشعر إيران بالأمان تجاه كلينتون التي تجاهر بولائها لجماعات الضغط اليهودية وبدعمها المطلق لإسرائيل، ولا تنسى تعهدها خلال حملتها الانتخابية بأنها ستمحو إيران إن هاجمت إسرائيل.وفضلا عن مآلات الحوار الأمريكي مع إيران هناك إسرائيل التي بدأت مبكرا في طرق أبواب الإدارة الأمريكيةالجديدة لمحاصرتها في خياراتها تجاه إيران والتأكيد على ضرورة استمرار النهج الأمريكي المتشدد في التعامل مع إيران وعدم استبعاد أية خيارات لتسوية أزمة الملف النووي الإيراني، خصوصا بعد دعوة أوباما لإجراء حوار مع إيران.ولذا حذرت إسرائيل على لسان وزيرة الخارجية "تسيبى ليفني" من أن إعلان الرئيس باراك أوباما استعداده للحديث مع إيران "قد ينظر إليه باعتباره مؤشر ضعف في الجهود الرامية لإقناع طهران بالتخلي عن برنامجها النووي"، كما دعا وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك الولاياتالمتحدة إلى عدم التخلي عن احتمال اللجوء إلى الخيار العسكري ضد البرنامج النووي الإيراني، وقال في لقاء مع وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس: إن "ما نفكر فيه قلناه.. لا نستبعد أي خيار، ونوصي الآخرين بعدم استبعاد أي خيار".وفي كل الأحوال يمكن القول إن الشرق الأوسط بعد الحرب الإسرائيلية على غزة لن يكون هو الشرق الأوسط قبلها، فالانقسام ترسخ والمصالح تقاطعت والصراع أصبح على أشده، لكن الكل ما زال في انتظار ما ستقدم عليه الإدارة الأمريكيةالجديدة من مبادرات، يمكن بعدها تحديد معالم الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة.