أمي تُعاني مِن حالةٍ نفسيةٍ شديدة؛ يُخيَّل لها أنَّ أبي يخونها معي! فكانتْ تسألني: مَن الذي دخَل معك الغرفة؟ فأحلف لها أنه ليس معي أحدٌ، فتكذِّبني، وتقول: إنها رأتْ كلَّ شيءٍ! تَكرَّر هذا الموقفُ أكثر مِن مرة، وأقسمتْ لها أنه لم يحدثْ شيء مِن هذا. أجرتْ أمي بعضَ الفحوصات، وكانت النتيجةُ أنها مريضة باكتئاب حادٍّ، وأخذت العلاج اللازمَ! لكن المشكلة فيَّ أنا؛ إذ لم تغبْ هذه المواقفُ عن بالي، وأثَّرَتْ فيَّ جدًّا! هناك مشكلةٌ أخرى خاصَّةٌ بي أيضًا وهي تعلُّقي بصديقةٍ لي، فأنا مهووسةٌ بها، أفكِّر فيها دومًا، أتحسَّس مِن أيِّ كلمةٍ تقولها لي، أزعل منها كثيرًا! أصبحتُ أفقد الثقة في نفسي، أخاف أن أتزوَّجَ وأن أكونَ مثل أمي، أغار على بناتي مِن زوجي! فكرتُ في زيارة طبيبٍ نفسيٍّ، لكني تراجعتُ؛ خوفًا مِن أن يعرفَ أحدٌ أني ذهبتُ لطبيبٍ نفسيٍّ، فما الذي يتوجب عليه فعله ؟. أرجو عونكم ومُساعدتكم، وجزاكم الله خيرًا. الجواب أيتها العزيزة، لا بأس عليك، ولا خوف على مُستقبلك بمشيئة المولى - عز وجل - فأنت فتاةٌ واعيةٌ، مستبصرةٌ بمشكلتك، أمَّا معاناة والدتك الكريمة - شفاها الله وتجاوز عنها - فأكثر مما يُمكن تشخيصه بالاكتئاب الحاد! فما تصفينه يقرب تعريفه ب: ضلالات الخيانة ، والضلالاتُ أعراضٌ ذهنيَّة، فإذا صحَّ تشخيص حالتها بالاكتئاب، فيكون مِن نوع الاكتئاب الجسيم المصاحب بأعراضٍ ذهنية ، ومثل هذه الحالة لا تتحسَّن إلا بالأدوية، أما أنت فتحتاجين إلى اتباع منهجٍ معرفي للتعامل مع الذِّكريات المُؤلِمَة، مِن أجل ذلك أقترح عليك أن تسترشدي مُعالِجةً نفسية متمرِّسة بالعلاج السلوكي المعرفي إذا أُتِيحَتْ لك فُرصةٌ للعلاج النفسيِّ، وسأعطيك ها هنا طريقةً جيدة للتعامل مع تداعي الذكريات المؤلمة، آمل أن تنتفعي بها: أولًا: اجلسي في خلوةٍ مع نفسك، وحاولي أن تلتقطي ما تحت هذه الذِّكريات المؤلمة من مُثيراتٍ وارتباطاتٍ شرطية قد يكون مِن شأنها أن تقدح زناد تلك الذِّكريات المؤلمة في ذاكرتك، وهذه الارتباطات الشرطية قد تكون: ثم قيِّديها بالكتابة في ورقةٍ، أو اطْبَعِيها في مستندٍ خاص في حاسوبك، كما يمكنك التقاط مثل هذه الارتباطات الشرطية ساعة تداعي تلك الذكريات في رأسك، من خلال سؤال نفسك: "ما الذي يجعلني أتذكَّر هذه الذكريات الآن؟!". ثانيًا: ضَعي خطة تعامل مع هذه الارتباطات الشرطية؛ بحيث يُمكن باتباعها أن تقيدي الذكرى المؤلمة ساعة تداعيها، كأن تقطعي التفكير مِن فوْرِك، وتقرئي شيئًا من القرآن، أو تسجلي دخولك في أحد مواقع التواصُل الاجتماعي، أو تتصلي بصديقتك، أو تمارسي رياضة المشي، ونحو ذلك من الوسائل التي تفضِّلينها لوقف الاسترسال مع الحزن الذي تنشره هذه الذكريات في القلب! ومع مرور الوقت، ستستجيب الواعية الباطنة لهذا المنهج المعرفي، فتبدأ تلك الارتباطات السلبيَّة بالتحلُّل والتفكُّك - بمشيئة الله عز وجل. تحتاجين أيضًا إلى تقوية مهاراتك النفسية والاجتماعية بالتسجيل في دورات تطوير الشخصية، وتأكيد الذات، وبناء الثقة بالنفس، فاسألي عنها في عمادة خدمة المجتمع في الجامعة التي تدرسين فيها، وفي المراكز النفسيَّة المشيدة في المنطقة التي تعيشين فيها. شخصيتك الحسَّاسة تحتاج إلى تطوير سماتها، مِن خلال سلوك طرائق التفكير العقلاني عند تقييم المواقف الاجتماعية التي تمرين بها، وتثير حساسيتك النفسية، ولعلك إن اتَّبعتِ هذه الطريقة أن تشعري بالفرق في اتجاهاتك الفكرية: الموقف: تأخُّر اتصال صديقتك! الأفكار غير العقلانية: "صديقتي لا تهتم بي"، "لو كنت عزيزةً عليها لاتصلتْ بي، ولم تجعلني أنتظر كل هذا الوقت"، "لقد تغيرتْ! لم تعدْ تحبني ولا تشتاق إليَّ كما أشتاق إليها"... إلخ. التفكير العقلاني: التماس العُذر لصديقتك، قولي في نفسك: "لعله قد عرض لها شغلٌ في البيت"، "لعلها نائمة وامتدَّ بها النوم لإرهاقها"، "لعل في جوالها مشكلة، أو قد فرغ الرصيد" ونحو ذلك، ثم مِن شأن هذه الأفكار العقلانية أن تعكسَ ظلالًا إيجابية على شعورك مع مُرور الأيام. تبقى أخيرًا مشكلة تعلُّقك بصديقتك، وهي مشكلةٌ شائعةٌ في المدارس والجامعات، أنتجها انعدامُ الإشباع العاطفي في البيوت، مع ضَعْف تعلُّق القلوب بخالقها - عز وجل - وأبصر في قولك بأنك "مهووسة بصديقتك" ما لا يُبَشِّر بخير! فالصديقُ الصدوقُ نُحبه في الله، ونعجب بسخاوة نفسه، وكرم أخلاقه، بدون أن تختلَّ عقولُنا، أو تضطرب قلوبُنا بسبب هذا الحب أو الإعجاب! والمشاعرُ الجميلة بين الأصدقاء إن لم تضبط لتكونَ في الله ولله، قلبها الشيطانُ إلى معصية يُعاقِب اللهُ عليها، فتنقلب عن قريبٍ من محبةٍ وإيثارٍ إلى عداوةٍ وبغضاء في الدنيا قبل الآخرة! فلتضعي صداقتك في ميزان الشرع، وراقبي الله - عز وجل - في مشاعرك وأفكارك إن أردْتِ التوفيق منه، والدوام لهذه الصداقة! ولا تنسَيْ توزيع طاقاتك العاطفية بين الأنشِطة والهوايات المختلفة، فأنت في عُمر الإنتاج الفكري والعطاء الإبداعي، فلا تضيعي عمرك في الترهات والسخافات والجهالات! وانظري في استشارة: "هل علاقتي هذه بصديقتي تعد من الشذوذ؟"، واستشارة: "أتعلق بصديقاتي ويتركنني!"، ففيهما تذكرةٌ نافعةٌ لمن كان له قلبٌ! وعسى الله أن ينوِّرَ عين بصيرتك، ويقوي عزيمتك، ويشفي آلام قلبك، ويرزقك وأهلك أسباب السعادة، وصلاح الحال والبال في الدنيا والآخرة، اللهم آمين. والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.