طالت غيبة صديقي الأستاذ، منذ أكثر من أسبوع لم يأت إلى المقهى، ولأنني أحس بنوع من الفراغ عندما يتأخر عن موعده، رحت أسأل عنه في بيته، فوجدته في حال لا تبعث على التفاؤل، كان كالميت الحي، ملقى على ظهره فوق السرير، لا يبدو من جسمه غير وجهه الشاحب، رفع إلي عينيه الذابلتين، واقتلع بمشقة جمة، ابتسامة من شفتين يابستين مصفرتين. لم أجد ما أبدأ به الحديث، فنطق لساني بعفوية سائلا عن حاله قائلا: ما دهاك.. خيرا إن شاء الله ؟ فاختصر لي المسافة بإيماءة، أن انظر، وصوبت نظري حيث أشار، فرأيت رزما مكدسة من أوراق التلاميذ، ففهمت الموضوع من أساسه، وحضرتني في اللحظة نفسها صورة عملية حسابية كانت جوابا على سؤال طرحته عليه مرة:" يتهمكم الناس بالفراغ.. فبما تدافع عن نفسك؟ فقال : ليس لي من دفاع غير عملية بسيطة، فاحسب معي لتعرف كم من الوقت أملك لنفسي وعائلتي! أعمل في اليوم أربع ساعات مع أربعة أقسام، عملا مباشرا مع التلاميذ، في كل قسم أربعون تلميذا، في نهاية كل حصة أجمع عددا من أوراق التطبيقات الواجب تقييمها خارج القسم، يساوي عدد التلاميذ، افرض أني أستغرق ثلاث دقائق فقط مع كل ورقة، وهو وقت بعيد حتى عن معدل تصحيح تمرين واحد، بما يستلزمه من مراقبة ووضع الملاحظة والعلامة، ونقلها على الدفتر الخاص، ثم علي بعد ذلك تحضير عمل اليوم الموالي بإعداد الدروس كتابيا، مع مراعاة المستوى واختلاف الدروس، في المتوسط، يستغرق الأمر حوالي نصف ساعة لكل درس، تلك هي المعطيات اليومية فاحسب، وحلل، وناقش! (40×4=160 ) ، 160×3=480 دقيقة (8ساعات) + 4ساعات = 12سا عمل يومي ، يضاف إليها وقت الطريق، و بعض اللحظات لتناول لقمة الطعام...فكم بقي من وقت في هذا اليوم توزعه على شؤون عائلتك؟ فقال بشيء من السخرية: أستعير من كرم الليل نصيبا غير مردود! لا أدري كيف ينظر القائمون على التربية إلى هذا "المعلم" الذي حولوه إلى عبارة عن آلة بيروقراطية بما يستغرقه من وقت بين الأوراق، لا يرفع رأسه عن ورقة إلا ليحطها على أخرى، كل ذلك، بحجة، كما سمعت أحد الأساتذة يقول:" التنقيب عن المعدل في أوراق التلاميذ!