كانت ملحمة رائعة قل نظيرها في التاريخ...ملحمة إنسانية رسمت فيها أسمى العواطف الإنسانية لوحة رائعة ستبقى خالدة على مر التاريخ ولن يطويها النسيان... وملحمة عسكرية تحدت اصعب الظروف وأقسى الشروط. بطل هذه الملحمة هو القائد التركي اللواء فخر الدين باشا الملقب ب (نمر الصحراء)، ومن قبل الانجليز ب (النمر التركي). كان قائد الفيلق في الجيش العثماني الرابع في الموصل برتبة عميد عندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى في 1914م، ثم رقي إلى رتبة لواء.أستدعي عام 1916 إلى الحجاز للدفاع عن المدينةالمنورة عندما بدت تلوح في الأفق نذر نجاح الانجليز في إثارة حركة مسلحة ضد الدولة العثمانية. وصل إلى المدينةالمنورة في 31/5/1916 ...وصل إليها فرحا لأنه كان يحب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حبا لا يوصف... وهذا الحب...بل العشق هو الذي رسم لوحة الملحمة الإنسانية التي بقيت خالدة في التاريخ العثماني. منذ اليوم الأول من وصوله للمدينة حتى فراقه لها ...اي خلال أكثر من عامين لم يشبع من زيارة ضريح حبيبه ولا من مناجاته له والبكاء بين يديه...كان في صباح كل يوم ينزع بزته العسكرية، ويلبس ملابس بيضاء كالكفن، ويعتمر عمامة بيضاء ثم يقوم بمسح وتنظيف الضريح وحواليه ودموعه تتساقط ...يبكي حتى تبتل قطعة القماش التي ينظف بها الضريح...هكذا في صباح كل يوم. لم يفت يوم واحد دون قيامه بهذا. انسحبت الجيوش العثمانية من الحجاز بعد سقوط الحجاز بيد الثوار، ولم تبق هناك سوى حامية فخر الدين باشا التي كانت تبلغ 15 ألفا من الجنود مع بضعة مدافع...بقي فخر الدين باشا وحده وسط بحر من الصحراء ومن الأعداء...أصبح أقرب جيش عثماني يبعد عنه 1300كم ...انقطعت عنه جميع الإمدادات...ومما زاد في عزلته قيام لورنس- الجاسوس الانجليزي - وأعوانه من بدو بعض القبائل بنسف سكة حديد الحجاز في عدة مواضع، وبنسف أعمدة التلغراف...فاصبح معزولا عن العالم ...وحيدا ومحاصرا من قبل أعداء يفوق عددهم عدد جنوده أضعافا مضاعفة ويقومون بالهجوم على المدينة ويطلبون منه الاستسلام. ولكنه كان يردهم على أعقابهم كل مرة. كانت أمورالدولة العثمانية تسوء يوما بعد يوم، وتتراجع جيوشها أمام قوات الحلفاء في معظم جبهات القتال. لذا اتخذت الحكومة العثمانية ( وعلى رأسها أنور باشا) قرارا بتخلية المدينةالمنورة. وأبلغوا فخر الدين باشا بهذا القرار...شعر بأن خنجرا يغرس في قلبه...أرسل رسالة إلى أنور باشا يتوسل فيها منه ويقول: (لماذا نخلي المدينة؟ أمن أجل أنهم فجروا خط الحجاز؟ ...الا تستطيعون إمدادي بفوج واحد فقط مع بطارية مدفعية؟...امهلوني مدة فقد أستطيع التفاهم مع القبائل العربية) توسل توسلا حارا ناسيا غروره وكبرياءه كقائد عثماني مرموق. رضي أنور باشا أمام هذا الالحاح بل التوسل الحزين...ولكنه لم يستطع إرسال اي مدد إليه. ولكن الأحوال العسكرية ساءت جدا في تلك المنطقة. فقد هزم الجيش العثماني في حروبه مع القوات الانجليزية - التي كانت تفوقه في العدد والعدة وفي حسن التموين - في القناة وفي جبهة فلسطين، واضطر للأنسحاب. وفي الشهر العاشر من عام 1918م وقعت الدولة العثمانية معاهدة موندروس...كانت معاهدة استسلام قاسية جدا. أي انتهت الحرب...وصدرت إليه الأوامر من قبل الحكومة العثمانية بالانسحاب من المدينة وتسليمها إلى قوات الحلفاء....ولكنه رفض...أجل!...رفض هذا القائد العثماني تنفيذ أوامر قيادته وأوامر حكومته...أي اصبح عاصيا لها...كانت الفقرة رقم 16 من معاهدة الاستسلام تنص صراحة على وجوب قيام جميع الوحدات العثمانية العسكرية الموجودة في الحجاز وسوريا واليمن والعراق بالاستسلام لأقرب قائد من قواد الحلفاء. واتصل به الانجليز باللاسلكي من بارجة حربية في البحر الأحمر يخبرونه بضرورة الاستسلام بعد أن انتهت الحرب وتم التوقيع على معاهدة الاستسلام فكان جوابه الرفض. كتب إليه الصدر الأعظم أحمد عزت باشا – وهو يبكي- رسالة يأمره بتسليم المدينة تطبيقا للمعاهدة. وأرسل رسالته هذه مع ضابط برتبة نقيب. ولكن فخر الدين باشا حبس هذا الضابط، وأرسل رسالة إلى الصدر الأعظم قال فيها إن مدينة رسول الله (ص) لا تشبه أي مدينة أخرى لذا فلا تكفي أوامر الصدر الأعظم في هذا الشأن ، بل عليه أن يستلم أمرا من الخليفة نفسه. كان في الحقيقة يفتش عن عذر لرفض الإنسحاب. ازدادت الضغوط على الدولة العثمانية من قبل الحلفاء لتطبيق المعاهدة وتسليم المدينة إليهم. لم تر الحكومة العثمانية بدا من الرضوخ ...فلم تكن لديهم أي حول أو قوة للرفض. وهكذا صدر أمر من الخليفة نفسه إلى فخر الدين باشا بتسليم المدينة. وأرسل الأمر السلطاني بواسطة وزير العدل " حيدر ملا". سدت جميع الأبواب في وجه فخر الدين باشا...فقد وصل إليه أمر من الخليفة نفسه بوجوب الاستسلام. هل سيترك مدينة حبيبه(صلى الله عليه وسلم) ويسلمها إلى الأعداء؟ كلا!...لن يستسلم ولن يقبل تنفيذ أي أمر بهذا الخصوص ...حتى ولو كان الأمر من الخليفة ومن السلطان نفسه. أرسل الجواب مع وزير العدل. قال في الجواب: ( إن الخليفة يعد الآن أسيرا في يد الحلفاء. لذ فلا توجد له إرادة مستقلة. لذا فهو يرفض تطبيق أوامره ويرفض الاستسلام)!!!.رفض حتى أوامر الخليفة نفسه!. وبدأ الطعام يقل في المدينة...كما شحت الأدوية وتفشت الأمراض بين جنود الحامية وكذلك بين أهالي المدينة...كانوا نقطة في بحر الصحراء محاصرين ومنقطعين عن العالم. جمع فخر الدين باشا ضباطه للإستشارة حول هذا الظرف العصيب...كان يريد أن يعرف ماذا يقترحون، ومعرفة مدى إصرارهم في الاستمرار في الدفاع عن المدينة.... اجتمعوا في الصحن الشريف ...في الروضة المطهرة في صلاة الظهر...أدى الجميع الصلاة في خشوع يتخلله بكاء صامت ونشيج. ثم ارتقى فخر الدين باشا المنبر وهو ملتف بالعلم العثماني...خطب في الضباط ...خطب خطبة كانت قطرات دموعه أكثر من عدد كلماته...وبكي نزل من المنبر فاحتضنه الضباط ضابطا ضابطا...احتضنوه وهم يبكون وهو يبكي...كانت لوحة مأساوية من أروع لحظات التاريخ ستبقى في سجل التاريخ، طفح فيه حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشكل قل نظيره وثارت فيها العواطف وتأججت وسالت من المآقي الدموع ...كانوا يحسون بأن روح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجول بينهم...اقترب منه أحد سكان المدينة الأصليين...احتضنه وقبله وقال له:( أنت مدني من الآن فصاعدا...أنت من أهل المدينة يا سيدي القائد!). ولكن الحقيقة المرة كانت ماثلة أمام كل عين ...حقيقة مادية وواقعية لا يمكن تجاهلها...لم يكن من الممكن الاستمرار في هذا الرفض...فقد أشتدت وطأة الجوع والمرض على الجيش العثماني وعلى سكان المدينة، وقلت الذخيرة الحربية ولم تعد كافية للدفاع عن المدينة. عندما يئست القوات المحاصرة للمدينة من فخر الدين باشا زادوا اتصالهم مع ضباطه...كان الوضع ميئوسا منه. كلمه ضباطه شارحين له الوضع المأساوي للحامية ولأهل المدينة. فوافق أخيرا على قيام ضباطه بالتفاوض على شروط وبنود الاستسلام. كان على رأس بنود الاتفاقية بند يقول: (سيحل فخر الدين باشا ضيفا على قائد القوات السيارة الهاشمية في ظرف 24 ساعة) وأنه تم تهيئة خيمة كبيرة لاستراحته. وفي المدينة كانت ترتيبات الرحيل تجري على قدم وساق...كانت سيارة القائد فخر الدين مهيأة وقد نقلت إليها أغراض القائد. بقي الضباط في انتظار خروجه ...ولكن الساعات مضت ولم يخرج إليهم، بل جاء أمر منه بتخلية السيارة من أغراضه الشخصية ونقلها إلى بناية صغيرة ملحقة بالمسجد النبوي...كان فخر الدين قد هيأ هذا المكان لنفسه .. احتار نائبه والضباط ولم يدروا كيف يتصرفون...تشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يأخذوه قسرا...اقتربوا من فراشه وأحاطوا به وحملوه قسرا إلى الخيمة المعدة له وهم يبكون...كانوا يعرفون مدى حب قائدهم للرسول (ص)، ولماذا يعاند كل هذا العناد رافضا الابتعاد عن ضريحه(ص). ولكنهم لم يكونوا يستطيعون ترك قائدهم هكذا وحيدا هناك. حدث هذا في يوم 10/1/1919م . في اليوم الثاني اصطف الجنود العثمانيون صفوفا أمام المسجد النبوي ...كان كل جندي يدخل ويزور ضريح رسول الله (ص) ويبكي ويدعو ثم يخرج ...كذلك الضباط ...لم يبق أحد لم يسكب دموعا حارة في لحظة الوداع المؤثرة هذه...حتى سكان المدينة وقوات البدو بكوا من هذا المنظر. عندما نقل فخر الدين باشا إلى الخيمة المعدة له كان هناك الالاف من قوات البدو يحيطون بالخيمة ويشتاقون إلى رؤية هذا البطل الذي أصبح اسطورة. وما أن ظهر حتى ارتجت الصحراء بنداء : (فخر الدين باشا ...فخر الدين باشا!)...لم يكن هناك من لم تبهره بطولته وحبه لرسول الله(ص). وفي 13/1/1919 دخلت قوات البدو– حسب الاتفاقية – إلى المدينة.اي استسلمت الحامية العثمانية في المدينةالمنورة بعد 72 يوما من توقيع معاهدة موندروس. -ولد في مدينة "رسجق" الواقعة قرب نهر الدانوب في بلغاريا عام 1868م حيث كانت توجد هناك أقلية تركية. والده محمد ناهد أفندي، ووالدته فاطمة عادلة. -نزحت عائلته إلى اسطنبول بعد الحرب الروسية – التركية عام 1877- 1878م هربا من المذابح التي وقعت على المسلمين هناك. -دخل المدرسة الحربية عام 1888م وأنهى كلية الأركان في 1891. - لعب دورا مهما في استعادة مدينة "أدرنة " من الأعداء في أثناء حروب البلقان. -عين في أثناء الحرب العالمية الأولى في 1914م في الموصل قائدا للفيلق في الجيش الرابع العثماني برتبة عميد، ثم رقي إلى رتبة لواء. - أرسل من قبل جمال باشا إلى المدينةالمنورة للدفاع عنها بعد تواتر الأنباء بأن شريف مكة يتهيأ لإعلان الثورة على الدولة العثمانية بالإتفاق مع الإنجليز. -تم إعلان الثورة في 3/6/1916م بنسف سكة حديد الحجاز في عدة مناطق قريبة من المدينةالمنورة وبنسف أعمدة التلغراف. - في 5-6/6/1916م هاجم الثوار مراكز شرطة المدينةالمنورة، ولكن فخر الدين باشا ردهم على أعقابهم. -كان عدد الثوار في البداية 50 ألفا، ثم تضاعف العدد.أما عدد الجنود العثمانيين في منطقة الحجاز فكان 15 ألفا فقط. -بادر فخر الدين باشا بهجوم مقابل، وانتصر في مواقع "بئرعلي" و"بئرماشي" والمناطق المجاورة لهما. - في نهاية شهر أيلول وقعت جميع مدن الحجاز في يد الثوار،سوى المدينةالمنورة. -لم تستطع اسطنبول إجابة طلبه في إرسال الإمدادات إليه. - لتأمين خط دفاع آمن قام بإجلاء الثوار من المناطق المحيطة بالمدينةالمنورة مثل بئر درويش وبئر عباس وغيرهما. -في 19/أغسطس/1916استطاع تأمين خط آمن بطول 100كم حول المدينةالمنورة. -بعد صدور قرار من العاصمة اسطنبول بالانسحاب الجزئي من الحجاز خشي من تعرض المدينةالمنورة للنهب في حالة سقوطها فألف لجنة قامت بتدقيق آثار الرسول (ص) واختارت 30 قطعة نفيسة منها وأرسلتها إلى اسطنبول في حراسة ألفي جندي. - وقعت الدولة العثمانية على معاهدة موندروس في 30/10/1918 وهي معاهدة استسلام كاملة للحلفاء. - حسب المادة 16 من هذه المعاهدة كان عليه الاستسلام لأقرب جيش للحلفاء.ولكنه رفض تطبيق هذه المادة، كما رفض أوامر الصدر الأعظم ثم أمر الخليفة بالإستسلام. -استمر في الدفاع عن المدينةالمنورة حتى قل الطعام والدواء والذخيرة الحربية بشكل كبير تعذر معه الاستمرار في الدفاع، فاضطر للإستسلام. ومع ذلك رفض الخروج من المدينة مقررا البقاء بجوار ضريح رسول الله (ص)ولكن ضباطه حملوه قسرا إلى الخيمة المعدة له خارج المدينة. -سلمه الثوار العرب إلى الإنجليز الذين أرسلوه إلى مصر في 27/1/1919 كأسير حرب. -في 5/8/1919 نفي إلى جزيرة مالطا. - حوكم أمام محكمة شكلها الحلفاء لمحاكمة مجرمي الحرب، وحكم عليه بالإعدام. -استطاعت حكومة أنقرة إنقاذه من الأسر في 8/4/1921. - في 24/9/1921 ذهب إلى أنقرة للإشتراك في حرب الاستقلال ضد الحلفاء الذين كانوا قد احتلوا اسطنبول وإزمير وأجزاء أخرى من تركيا الحالية. - عين سفيرا لبلده في أفغانستان من قبل البرلمان التركي، واستمر في مهمته هذه حتى انتهاء مدة وظيفته في 12/5/1926. - في 5/2/1936 تقاعد عن السلك العسكري برتبة فريق. -توفي في 22/11/1948. ودفن حسب وصيته في مقبرة "روملي حصار" في اسطنبول.