في الحلقة الأولى من هذا الملف أوردت جزءا من شهادة عمرها 18 عاما، اقتنصتها من المرحوم "محمود رياض" أثناء إجرائي لدراسة جامعية حول لغز وفاة عبد الناصر، واليوم وأنا أعود للتحقيق بشكل أوسع في نفس الموضوع، وبعد كل تلك السنين، تمنيت لو أن الرجل الذي يملك الكثير من الأسرار على قيد الحياة . فما نشره رياض في مذكراته من بعد، وما احتفظت به على لسان الرجل، يؤكد أنه كان على دراية تامة بكل كبيرة وصغيرة فيما يخص علاقة عبد الناصر ببومدين، والآمال الكبيرة التي علقها الزعيم الراحل على الجزائر لقيادة الأمة العربية، فلنتابع معا بقية شهادات "محمد رياض"فيمايتعلق باجتماع القمة العربية الذي أعقبه وفاة عبد الناصر . يقول رياض : المهم أن الرئيس ناصر حاول ألا يغضب أحد من الحاضرين فتدخل مصطنعا الضحك : "يبدو لي أننا جميعا مجانين .. وأقترح أن نستدعى بعض الأطباء للكشف علينا جميعا ليقروا من منا مجنون ومن الراشد"، وعندئذ قال الملك فيصل : "طيب.. لا بأس يا حضرة الأخ عبد الناصر، ولكنني أريد أن أكون أول من يكشف عليه الأطباء، فربما وجدوني مجنونا وساعتها أكون قد تجنبت عذاب الاشتراك في محادثات كهذه"، وعندما وصل الملك حسين للاشتراك في الاجتماع كان يصطحب اثنين من الضباط معه.. وكان الثلاثة مسلحين بالمسدسات، وكان ياسر عرفات هو الآخر يحمل بمسدس حول خصره، وكذلك كان القذافي يحمل مسدسا حول وسطه هو الآخر، وأشار عرفات إلى الملك حسين وصاح : "هل ترون هذا المجرم، يقتلنا ثم يأتي بعد ذلك إلى هنا"، وقام الحاضرون بتهدئته، غير أن الملك فيصل تطلع إلى من حوله وقال : "أعوذ بالله.. إننا في ترسانة سلاح، وفي مهب كل هذه المشاعر الملتهبة.."، ولم يشأ الملك فيصل أن يجلس إلى جوار أي عضو في المؤتمر يحمل مسدسا، ومع ذلك فقط احتفظ حاملو المسدسات بها . ويضيف محمود رياض : كان اجتماعا يسوده التوتر البالغ، ولكن - كما هي عادة العرب - فقد راح الرجال الذين كانوا على استعداد لقتل بعضهم البعض في الصباح يتبادلون القبلات الأخوية في المساء، لكن الرئيس ناصر كان قد أصابه عيار قاتل، حقا حصل ناصر على موافقة كل من الملك حسين وياسر عرفات على وقف إطلاق النار، ودهش الجميع من هذه النتيجة، فقد كانت كل الظواهر تشير إلى استحالة ذلك : حدة المشاعر وعمق الخلافات الجوهرية، ومن ثم فقد بدا الفشل أمام العالم الخارجي أمرا محتما لا مفر منه، إلا أن عبد الناصر استطاع بمقدرة سياسية وصبر لا تحده حدود أن يقنع الإخوة المتخاصمين بتوقيع الاتفاق، لكن الرئيس لم يكن ليفرح بهذا النصر، فقد أسر لي قائلا : "انفتحت الجراح وضاع العناء هباءا .. الأشقاء استباحوا دمائهم، ذاقوا دماء بعضهم البعض .."، عندما حاولت التخفيف على الرئيس – يقول رياض – قال : "أحداث سبتمبر الأسود لن تكون الأخيرة .. بل بداية لنزيف دم لا يعلم متى يتوقف إلا الله"، ويضيف رياض : "ناصر كان لا ينظر تحت قدميه، بل وهبه الله القدرة على قراءة وتفنيد الأحداث المستقبلية، والدليل أنه رأى ما وقع للعرب خلال العقود الأربعة الأخيرة قبل وفاته بساعات . سألت رياض : الرئيس عبد الناصر كان مصابا بأمراض عدة، وكانت وفاته نتيجة منطقية لمضاعفات تلك الأمراض، فهل من المعقول القول بأن مؤتمر القمة هو الذي قتله ؟ يجيب رياض : كانت نتيجة هذا المؤتمر آخر خدمة قدر له أن يقدمها إلى الأمة العربية، ذلك أن الجهد والعمل والقلق المتصل كلفه غاليا، فقد كان في هذه المرحلة رجلا قد حل به التعب وأنهكه المرض، فقد كان يعاني من مرض السكري منذ سنة 1958، وكنتيجة لمرض السكر أصيب بحالة موجعة من تقلص شرايين ساقيه، وطلب منه الأطباء أن يقلع عن التدخين، وقال عبد الناصر عن ذلك :" لقد أطفأت سيجارتي الأخيرة، وقطعت على نفسي وعدا بأن لا أشعل سيجارة غيرها، وشعرت بعدها بأنني ودعت صديقا عزيزا على، فلقد كان التدخين الترف الوحيد الذي كنت أستمتع به، والآن فهذه المتعة الأخيرة قد ضاعت هي الأخرى". ومن المعروف أن ناصر خضع لدورة علاج بالمياه الحارة في الاتحاد السوفييتي سابقا، ولفترة ما شعر بتحسن كبير، ولكنه لم يستطع أن يلتزم حرفيا بالبرنامج البالغ القسوة الذي حدده له الأطباء، فعندما قالوا له إنه ينبغي أن يتجنب أي جهد جسماني أو عاطفي، أجابهم بقوله : "كيف يسعني ذلك، إن هذه هي حياتي كلها" . وفي هذه الحلقة أحاول التركيز على تفاصيل علاقة واتصالات الرئيس بومدين بالزعيم عبد الناصر أثناء المرض وحتى الوفاة، وفي هذا الشأن يقول رياض : اتصل الرئيس الجزائري هواري بومدين بعبد الناصر يوم 10 سبتمبر عام 1969 ليطمئن على صحته التي بدأت تتأثر، وكان بومدين دائم الاتصال بناصر هو وعدد آخر من زعماء العالم الذين كانت تربطهم صداقات متينة بناصر، ويضيف رياض : في هذا اليوم كنت بجوار ناصر حينما كان بومدين يحثه على الإخلاد للراحة، لكن ناصر رد عليه مازحا : "عندما أسمع أنك تخلد للراحة سأفعل مثلك"، في إشارة تبين أن بومدين كان هو الآخر من الزعماء القلائل الذين يتعبون من أجل شعوبهم، وبعد إغلاق المكالمة، قال لي الزعيم : "لو جاء ليجلس مكاني لأراحني من هذا التعب"، ويعلق رياض على مقولة عبد الناصر هذه بالقول : لقد كان ناصر يثق في بومدين بشكل مثير للتساؤل، وقال لي انه يتمنى أن يخلفه شخص مثله لقيادة الأمة، لكن ناصر لم يستمع لنصائح بومدين وواصل عمله طوال تلك الليلة في مكتبه وكنت معه لدرجة أن الإعياء استبد بي، وفي اليوم الموالي 11 سبتمبر 1969 أصيب ناصر بأول نوبة قلبية، وكتم النبأ عن الجميع فيما عدا سبعة أشخاص داخل مصر، وشخص واحد خارجها هو الرئيس بومدين، فمجرد أن هرعت إليه أخبرني بإعياء شديد أن اتصل بالرئيس الجزائري أول بأول ليطلعه على حالته الصحية، أما عن السبعة أشخاص المصريين فكان ينبغي أن يعرفوا، وأعلن يومها أن ناصر أصيب بحالة من الأنفلونزا الحادة، وأنه سيتغيب عن مكتبه لمدة ستة أسابيع، بل إن النبأ كتم حتى عن السيدة قرينته، غير أنها بدأت ترتاب في حقيقة ما يعانيه عندما وجدت المهندسين ينصبون مصعدا كهربائيا في المنزل . أما أنا – يقول رياض – فقد اتصلت بالرئيس الجزائري، وأخبرته بحقيقة مرض الرئيس، فارتبك جدا وقال انه سيأتي فورا للقاهرة، لكني أخبرته بسرية الموقف، وأن الرئيس ناصر لم يطلب ذلك، فقط طلب إعلامك بالأمر، ويضيف رياض : من خلال تحليلي لمطلب الرئيس ناصر، استنتجت أن ثمة علاقة من نوع خاص كانت تربط ناصر ببومدين، أن ناصر لم يكن يريد من بومدين فعل شئ قدر إقدامه على خطوة تجبر الخواطر لا يتسبب إغفالها في غضب بومدين من صديقه . وفي مذكراته يقول رياض : تدهورت حالة الرئيس بشكل استوجب الاستعانة بالمشورة الطبية من الخارج، فأرسلت رسالة سرية إلى موسكو، حضر إلى القاهرة على أثرها الدكتور شازوف وزير الصحة السوفييتي، وهو أخصائي بارز في أمراض القلب ، وبصحبته فريق من الخبراء، فجاء تشخيصهم مطابقا تماما لتشخيص طبيب الرئيس الخاص الدكتور الصاوي حبيب، وقال الدكتور للرئيس إنه لا يجوز أن يعالج بالمياه المعدنية مرة أخرى في الاتحاد السوفييتي قبل مرور خمسة أعوام على الأقل، وأدرك عبد الناصر أن عليه أن يحتمل حالة القلب التي كان يعاني منها بالإضافة إلى الآلام المستمرة في ساقيه، وهنا فكر ناصر في الاستقالة، وتحدث في مكالمة هاتفية مع بومدين بخصوص هذا الموضوع، إلا أن الرئيس الجزائري قال له "لا تفعل سيادة الرئيس لأن الأمة العربية قد تفسر استقالتك وكأنها يأس من النصر"، ويضيف رياض : كانت كلمات بومدين قد تركت تأثيرها في ناصر، فاستمر يعمل طويلا وبكل طاقته، والواقع أنه كان يعتقد دائماً أن قدره لن يمهله حتى يتمتع بحياة طويلة، وعندما سأله الرئيس بومدين في نفس المكالمة عما إذا كان ينوى الاستقالة ليتفرغ لكتابة مذكراته، أجابه قائلا :"إن الذين يعيشون على طريقتي وطريقتك لا يمتد بهم العمر طويلا"، ويضيف رياض : وبالفعل كان ناصر وبومدين من أصغر الزعماء الذين رحلوا مبكرا، لكن ناصر كان في مرة قد أسر لي أنه أبلغ الرئيس الجزائري بأن يضع الأمة العربية أمانة في عنقه، وحينما سألته عن سر تحميل بومدين هذه الأمانة دونا عن غيره من الزعماء العرب، أجابني قائلا : " إن بومدين هو الرجل القوي الذي يلين له الحديد، وهو الأنسب لحمل هذا الحمل الثقيل"، ويضيف رياض : وبالفعل تحمل الرئيس الجزائري المسؤولية في وقت لا يقل ضراوة عن توقيت حمل ناصر لها، لكن القدر لم يمهله هو الآخر . تقرأون في الحلقة القادمة اللحظات الأخيرة في حياة الزعيم .. سكرات الموت والرحيل في صمت أحزان في الجزائر وأعراس في تل أبيب موكب دفن عبد الناصر وأكبر جنازة في تاريخ البشرية