من الضروري أن يكون المرء موهوبا واستثنائيا وصادقا في عمله إلى حدود غير طبيعية من أجل أن يجمع ملايين البشر على تبجيله وحبه وتقديره على امتداد القرون. أقرأ عن ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الفينة والأخرى، وأتساءل: لماذا يحبه أهل المغرب والمشرق حتى يوم الناس هذا؟ لماذا لم يختف ذكره الحسن الحميد من التاريخ أبدا؟ لماذا يشهد بفضله المسلمون، وكذلك المؤرخون والكتاب المنصفون من غير المسلمين؟ وأجيب نفسي بنفسي: لا شك أنه كان موهوبا واستثنائيا وصادقا في عمله إلى حدود غير طبيعية. ثم أبسّط الجواب وأقول لنفسي: أتستكثر ذلك على تلميذ نجيب من تلاميذ سيد البشر وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم؟ ربما كانت معجزة عمر أنه لم يكتف بالخطب الجميلة والشعارات الرنانة، كما يفعل كثير من حكام هذا العصر، ولكنه عمل أكثر مما تكلم، وترجم مبادئه وقيمه التي يؤمن بها أعمالا حميدة جليلة يشهد بعظمتها خصومه قبل محبيه. النوايا الحسنة وحدها لا تكفي. الوعود الجميلة وحدها لا تقدم ولا تؤخر. ولو كانت تنفع لكان كل الزعماء مثل عمر. إنما الذي يميز حاكما عن آخر هو مدى قدرته على ترجمة نواياه ووعوده الجميلة إلى أفعال جميلة ينتفع بها الناس ويشهد لها التاريخ. وهنا يكمن الإختبار الحقيقي الحاسم لكل قائد وزعيم. مما حفظه التاريخ لعمر بن الخطاب على هذا الصعيد هذه الرواية التي وردت تفاصيلها في مسند الإمام أحمد وفي الكامل للتاريخ لابن الأثير وفي تاريخ الطبري، برواية أسلم، المساعد الشخصي لثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال أسلم: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة فقال عمر: يا أسلم إني لأرى هناك ركْبًا حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا. قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون (يتصايحون). قال الخليفة: السلام عليكم يا أهل الضوء، وقد كره أن يقول: يا أهل النار. قالت: وعليكم السلام. قال عمر: أأدنو؟ قالت: ادْنُ بخير أو دع. فدنا فقال: ما بكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فمالِ هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ماء أُسْكِتَهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر. قال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه. قال أسلم: فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق. فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلا من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم قال: احمله عليّ. فقلت: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين. قال: أأنت تحمل وزري يوم القيامة، لا أمَّ لك؟ وأواصل عرض القصة غدا إن شاء الله تعالى.