يؤكد الخبير، سيد علي عزوني، رئيس مكتب دراسات "كارفور" للمنشآت الصناعية، على أنّ فرض إجبارية التكوين المهني في الجزائر، سيرتقي به إلى ما تتمناه الحكومة كرافد من روافد الاقتصاد الوطني المنتج. في هذا الحوار الخاص ب "النهار أون لاين"، يدعو، عزوني، إلى تسريع تجسيد إجبارية التكوين المهني، لافتا إلى أنّ المستثمرين السابقين والحاليين والمستقبليين، كثيرا ما أعلنوا أنّ همهم الأكبر بعد انجاز المشاريع ليس المال اللازم بل العمالة المؤهلة، ورغم إنفاق الدولة مبالغ طائلة على البنى التحتية والإطارات المؤهلة، إلاّ أنّ منظومة التكوين المهني لا تزال تكافح كي تستجيب لتطلعات الحكومة، ما يفرض وضعها في السكة التي ينبغي أن تكون فيها. * ما هي مشكلة التكوين المهني؟ أهي مالية أم تنظيمية؟ – المشكلة ليست مالية لأن الدولة وفّرت ولا زالت توفر إمكانات ضخمة للتكوين المهني، كما أنها ليست تنظيمية إن تعلق الأمر بكيفية تنظيم التكوين ومنحه للشباب والشابات، لكنه مشكل تنظيمي من حيث الأولوية الاقتصادية، فرغم الوعي الحكومي الكبير بمسألة التكوين المهني، إلا أن أثره على الحركة الاقتصادية ضعيف. * ما سبب هذا الضعف؟ – يشترك في هذا الضعف الجميع، أي المنظومة التربوية، الأولياء، والوعي الجماعي من الإدارة والقائمين على الاقتصاد الوطني، فعندما يتعلق الأمر بالمنظومة التربوية نرى أنها قائمة على الإلزام، أي أنّ التعليم الأساسي إلزامي وتعمل الحكومة ما في وسعها لتعميم التعليم وإلزام الأولياء بجلب أبنائهم إلى المدارس، وكما يعلم الجزائريون فإنّ التعليم الأساسي إلزامي، والصحة إلزامية والحق في السكن لا جدال فيه، والخدمة الوطنية إجبارية ودفع حقوق الضمان الاجتماعي إلزامية، والقائمة طويلة، لكنها لا تتضمن التكوين المهني فهو غير إجباري. وبسبب عدم إلزامية التكوين المهني، تضعف آلة الإقناع لدى الأولياء كي يوجهوا أبنائهم وبناتهم لمراكز التكوين المهني، وبالنسبة للقائمين على الاقتصاد الوطني في الإدارة وفي القطاعين العام والخاص، فإنهم يجمعون على الشكوى من ضعف ونقص اليد العاملة المؤهلة، وسبب هذا الضعف برأيي أمران، عدم إلزامية التكوين المهني ونقص الربط التام بالآلية الإنتاجية الوطنية صناعية وزراعية وخدمية. اقتصادنا يفتقد للتسيير الصناعي والإنتاجي * هل يمكن إجبار الشباب الجزائري على التكوين المهني؟ وما هي ضرورة الإجبار؟ – نعم يمكن إلزام الجزائريين بالتكوين المهني، لأنه قرار اقتصادي واع من قبل الجهات الوصية، ولأنه ضروري للاقتصاد الوطني، وتماما مثل ضرورة الهواء للتنفس. لاحظ معي كيفية توجيه الشباب إلى مراكز التكوين المهني، فعندما ينتهي مسار التلميذ أو التلميذة في الأطوار الأساسية أي الابتدائي والمتوسط والثانوي قبل النجاح في البكالوريا، ولأي سبب كان سيعطى وثيقة مكتوب عليها "يوجّه إلى التكوين المهني"، وهناك آلية عمل تتمثل في التنسيق مع موجّهين من مراكز التكوين المهني يتصلون بالتلاميذ المسرّحين وينصحونهم ويوجهونهم، ثمّ يبقى الخيار للمراهق كي يقرر والده كي يقنعه، مع أنها مسألة حيوية للاقتصاد الوطني، لكنها تبقى حبيسة قرار نفسي لمراهق، هذا غير معقول، كما أني لا أنفي مسؤولية بعض الأولياء الذين لا يشجعون أو يرفضون التحاق أبنائهم بالتكوين المهني كي يساعدوهم في عمل ما، أو ليمنعوا بناتهم من الخروج من البيت لأسباب مختلفة. فمن دون عمال مؤهلين لا مصانع ولا مزارع ولا خدمات، وقضية الإلزام مرتبطة بالوجهة الاقتصادية الجديدة التي تنتهجها الجزائر وواضح أنها تشمل الثلاثين سنة القادمة، والإلزام يعني ضمان استثمارات وطنية ودولية تنافسية، وهذا مجال يمكن للدولة الجزائرية أن تتقنه بشكل كبير لأنها تملك القدرات المالية والبشرية. وبالنسبة لمن نجح في الباكالوريا وأراد أن يدخل مركزا للتكوين المهني لا يشمله الإلزام لأنه تجاوز مرحلة تربوية خاصة، فيمكنه الدخول إلى مراكز التكوين المهني لصقل قدراته وخبراته، خاصة ما تعلق منها بالتسيير الصناعي والإنتاجي، وهذه مسألة حساسة في الاقتصاد الجزائري الذي يفتقد بشدة إلى هذا النوع من التكوين. * ما هي الطريقة التي تقترحها للوصول إلى تكوين مهني فعال؟ – أنا أشدّد على إجبارية التكوين المهني، لنواح اقتصادية ذكرتها، ولكي نجنّب أبنائنا وبناتنا ويلات التسكع لسنوات طويلة بعد الطرد من المدرسة، وما ينتج عنه من مشاكل اجتماعية، أقترح أن يستمر إلزام الطفل الجزائري بالتعليم الأساسي أي على الأقل تسع سنوات تمدرس، كي يصبح تمدرسا إجباريا وتكوينا إلزاميا إلى غاية سن الثامنة عشرة، أي أنّ المفصول من الأطوار الأساسية قبل البكالوريا لأي سبب، يتحول إجباريا إلى التكوين المهني، وهنا يمكن أن توضع شعب تكوين إلزامية وأخرى اختيارية أو حسب الطلب أو حسب الحاجة العامة والشخصية مع العمل بجد كي ينتهي المكون بثلاثة اختصاصات على الأقل. لا تنسى أننا نزيد بمليون طفل سنويا وحتى لو نظمنا الولادات، فإنّ العدد لن ينزل عن سبعمئة ألف طفل سنويا، ما يعني بالإضافة إلى الرعاية الغذائية والصحية المتزايدة، ضرورة إيجاد فرص عمل. وضمن اقتصاد متحول كالاقتصاد الجزائري ستزيد الفرص شيئا فشيئا في السنوات القادمة، وقد نضطر إلى جلب اليد العاملة المؤهلة من الخارج وندفع لها بالعملة الصعبة كما نفعل الآن في قطاع السكن، وهذا غير متاح مستقبلا بسبب نقص الموارد من جهة، وارتفاع مناحي الإنفاق من جهة أخرى. تربية الشباب على أخلاق العمل منذ الصغر * على فرض أن التكوين المهني أصبح إلزاميا كيف يمكن أن نرفع مستوى اليد العاملة الجزائرية؟ – الحاجة هي أم الاختراع، يجب أن نربط التكوين المهني بالشبكة الاقتصادية وجوبا، وهي الآن متصلة ببعضها لكنه ربط إداري لا يعكس الحاجة الاقتصادية الملحة، فإذا أردنا أن يعمل شبابنا في مصانع السيارات والمواد الغذائية والصناعات المختلفة التي تقام هنا وهناك في الجزائر، لا بدّ أن ننسق مع المصانع حول الاحتياجات وأفضل الطرق للتكوين مع توفير قوائم المكونين، وعندما يصبح التكوين إلزاميا سترى اندماجا أكبر من الشركاء الاقتصاديين عموميين وخواص لأنّ الأمر مرتبط بالاستقرار. ومن بين الحلول لرفع مستوى اليد العاملة الجزائرية، ضمن آليات التكوين المهني، فبالإضافة إلى الكادر المؤهل وهو موجود، يجب بث روح المنافسة ما بين المكونين بأن يكون للأفضل الحق في العمل، كما أنّ هناك التكوين حسب الطلب، فمثلا عندما يكون هناك مستثمر نريد إقناعه بضرورة التواجد في مناطق بعيدة نائية، نقترح عليه تكوين مجموعة من اليد العاملة في المجال الذي يريد العمل فيه مقابل أن يتعهد بأمرين: بناء منشأته في المنطقة التي اتفق عليها وأن يوظف من كوناهم له من نفس المنطقة. الجزائر ستصبح وجهة لصناعة النسيج بصراحة، فإنّ نوعية اليد العاملة وجديتها ومدى صبرها وتحملها وحيويتها مرتبطة بالواقع الاجتماعي للبلد، فعندما يعيش المرء على الدعم في كل شيء يعم الاسترخاء والكسل، وهذا أمر واقع، لكن التكوين المهني الإلزامي في الصغر من شأنه تربية الشباب على أخلاق العمل وتوعيتهم بفوائده على استقرارهم المالي والاجتماعي، وهذا يقتضي أيضا التعامل مع القطاع الموازي الذي يجب الإسراع في دمجه ضمن الاقتصاد الرسمي، لأنّ هذا القطاع لا يدفع الضرائب والغنى فيه سهل مربح، لكنه يعلّم الكسل والتراخي وهذا مضرّ بالاقتصاد الوطني ولتنافسيته العالمية والإقليمية. لا تنسوا أنّ الجزائر ستصبح وجهة لصناعة النسيج في السنوات القادمة من خلال مليارات الدولارات التي أنفقت على مشروع النسيج في مستغانم، فلو كان التكوين إلزاميا لأمكن تطعيم المنطقة الصناعية في مستغانم بيد عاملة مؤهلة تريح الدولة من صداع إيجاد مناصب عمل لها في القطاع العمومي الذي بلغ مرحلة التشبع التام، ويرتفع المستوى المادي لساكنة الولاية المذكورة. خسارة إن لم نلتفت إلى مشكلة العمالة الوطنية المؤهلة * ألم تضع في حسبانك الميزانية الضخمة التي يتطلبها تكوين مهني إجباري؟ – هذه مسألة رفاه شعب ورقي دولة ومسألة التكوين المهني بالذات، لذا لا يجب أن نفكر فيها كثيرا كم سننفق؟ بل ماذا سنجني؟ أنا لا أعني عدم تنظيم الميزانية أو الإنفاق الفوضوي، لكن لو قارنا بين ما ينفق على تعقب التجاوزات القانونية التي يرتكبها الكثير من المنتسبين إلى الفئة العمرية التي يجب أن يشملها التكوين المهني الإلزامي، وبين ما ينفق من ميزانية أمنية وصحية على من طردوا من المدارس وهم أطفال وصلوا إلى سن الخامسة والعشرين من دون مهنة ولا تكوين، وهذه هي نتيجة قرار مستقبلي اتخذه مراهق أو مراهقة يوما ما، لذا لا يجب أن تنفق الدولة على مراكز تكوين مهني، يأتيها من يريد فقط أن يأتيها، ثم تنفق مرة أخرى على مراقبة ومعاقبة من لا يريد أن يلتحق بها. وهنا أطرح مسألة التكوين المهني بشكله الحالي، إذ هو منظم بحيث يشمل أنواع تكوين معينة لمستويات ابتدائية ومتوسطة وثانوية تقابلها، أي أنّ الحلاق مستواه ابتدائي، وكهربائي السيارات مستواه ثانوي، وبرأيي المتواضع يجب إضفاء المرونة على هذا الشكل من التكوين رغم أن تخصصات بعينها قد تحتاج إلى مستوى دراسي معين دون أخرى لكنه لا يشمل الكل، خاصة وأنّ العمل في الصناعة والزراعة قد أثبت أنّ فهم الصانع ومرونته الفكرية والجسدية مقدمتان على مستواه الدراسي الذي لا يمكن إغفاله هو الأخر. كل الدول التي لديها مردود اقتصادي عال شرقا وغربا دون أن نسمي أحدا، كلها أنفقت بسخاء ونظام على التكوين المهني لأنه من نوع الاستثمار الذي تنفق فيه اليوم دينارا لتربح منه غدا ألف دينار، حان الوقت لتنتهي الجزائر من هذا لقد دخلنا إلى مرحة جديدة بجيل جديد وبمدن جديدة وقرى مختلفة عن ما كان معروفا قبل عشرين عاما، والسياسة الحكومية الحالية حيوية وجدية، وخسارة أيما خسارة إن لم نلتفت إلى مشكلة العمالة الوطنية المؤهلة. وزارة مباركي تستطيع جلب مكوّنين في تصنيع وصيانة السيارات * تبين من خلال المحادثات التي جمعت اقتصاديين جزائريين وأجانب، شكوى الأجانب من نقص اليد العاملة المؤهلة، ما مقاربتكم؟ – أقترح أن يتحول الاقتصاديون الجزائريون إلى الهجوم المضاد، ويطلبوا من هؤلاء الأجانب وخاصة الجهات الحكومية في الاتحاد الأوروبي وشمال أمريكاوالصين واليابان، استعمال كل أنظمة التكوين المهني الموجهة للخارج، فألمانيا مثلا لديها جمعية مكوني التكوين المهني للمتقاعدين، الذين يعملون في الخارج من دون أجر بعد تقاعدهم، ويمكن لوزارة التكوين المهني أن تتصل بهذه الجمعية وتطلب منها على سبيل المثال مكوّنين في مجال صناعة وصيانة السيارات وتربط بينهم وبين مصانع السيارات الألمانية في الجزائر، هنا سنضمن أمران هما الجدية والمصداقية، وكل الدول التي ذكرتها لديها ما لدى الألمان، خاصة أنّ هذا النوع من المكونين السابقين في كل المجالات ومن ذوي الخبرة، لا يطلب سوى المأوى والمطعم عندما يذهب إلى الخارج. التأهيل ضمان للأمن الاقتصادي الوطني لا ننسى أنّ المنافسة الدولية في جلب الاستثمارات شديدة، فبعد تضييع الصين للكثير من مصانع النسيج، توجهت هذه رأسا إلى فيتنام وكمبوديا وإندونيسيا ولم تتوجه إلى الجزائر، بسبب اليد العاملة المؤهلة التي يجب أن تدخل مراكز التكوين المهني إلزاما، ضمانا للأمن الاقتصادي الوطني، فالنهضة الاقتصادية لابد لها من تخطيط وإمكانات ورجال وأهداف، وكل هذا لا يجب أن يوضع قراره في يد طفل مراهق. التكوين المهني أساس هائل للنمو والربحية أخيرا لا ننسى أننا قد نقع في ورطة مستقبلا بسبب شكل المدن التي نبنيها من دون مناطق صناعية أو خدمية، علما أنّ مراكز التكوين المهني على حيويتها لا تبنى إلا بعد سنوات من إنجاز الأحياء والمدن، والحديث يشمل كمثال لا الحصر، المدن الجديدة في بوينان وسيدي عبد الله في العاصمة، والمدينة الجديدة علي منجلي في قسنطينة. إنّ التنافسية العالمية تقتضي حيوية وطنية وهدفان لا شك فيهما هما النمو والربحية، والتكوين المهني أساس هائل الأهمية لتحقيق النمو والربحية، واسألوا أهل المصانع كم يدفعون من المال لمسير كفء متمكن عملا وأخلاقا وأمانة، إنه نادر في الجزائر ندرة الزئبق الأحمر، رغم توفر الإمكانات الهائلة والتكوين اللازم. انتهاءً، إنّ إلزامية التكوين المهني لا تعني الدكتاتورية، بقدر ما تعني الرعاية وضمان يد عاملة مؤهلة، ولكل بلد نفسيته وأخلاقه.