قررت السلطات المحلية بقسنطينة سهرة أمس الأول إعادة فتح جسر سيدي راشد وهو الأكبر حجريا في العالم، أمام حركة السير قبل إنهاء أشغال الترميم وإعادة التهيئة التي شرع في مرحلتها الثانية قبل نحو شهرين، في الوقت الذي دق فيه مختصون ناقوس الخطر حول عدم قدرة الجسر على التحمل وإمكانية انهياره في ظلّ عدم نجاعة عمليات التّرميم التّي تطاله. والمثير في الأمر أنه رغم تحذيرات مختصين أجانب حول إمكانية انهيار جسر سيدي راشد وعدم صلاحيته للفتح أمام سير المركبات نظرا لتضرّره الكبير، إلاّ أن مديرية الأشغال العمومية قرّرت فتحه مرة أخرى في الفترات الليلية للتّخفيف من حركة المرور وتسهيلها، لاسيما هذه الأيّام التّي تعرف توافدا كبيرا للعائلات على وسط المدينة وضواحيها لأجل اقتناء ملابس العيد. وكان الجسر الذّي يعدّ أكبر وأقدم جسر حجري في العالم قد أغلق لأجل ترميمات انطلقت منذ حوالي سنة، وهو الغلق الذّي تسبّب في اختناق كبير للحركة المرورية وسط المدينة لاعتبار الجسر شريانا مهما من شرايين النّقل بالمنطقة، وهو ما يفسّر اللّجوء لفتحه كلّ مرّة في الفترات اللّيلية التّي تشهد توقّف أشغال التّرميم. وكان مختصون أجانب قد أشاروا للضّرر الكبير الذّي مسّ دعامات الجسر بطريقة قد تؤدي به إلى الانهيار، لاسيما إن ظلّ الجسر مفتوحا أمام حركة السّيارات والمركبات التّي كان لها النّصيب الأكبر في التّصدعات التي مسّت الدّعامات، حيث أنّ الحافلات والشّاحنات-قبل منعها-كانت قد لعبت دورا كبيرا في الوضع الذّي آل إليه الجسر الذّي احتفل بمئويته هذا العام، وسط طبول الإنذار التّي قرعت من جهات متعدّدة تدعو لحماية المعلم الأثري من الانهيار الذّي يهدده. وواضح أن سلطات قسنطينة رضخت لمطالب المواطنين الذين وجهوا انتقادات لاذعة لمصالح الوالي نورالدين بدوي مفادها تحويل المدينة إلى ورشات مفتوحة في وقت واحد ودون تخطيط، ما جعلها تغرق في فوضى الاختناق المروري الذي أجج سخط المواطنين من مختلف الشرائح العمرية، وتزامن الغضب الشعبي مع موجة احتجاجات عنيفة فجرها سكان عديد الأحياء الحضرية بمدينة قسنطينة على خلفية الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي، حيث تسببت الانتفاضة العارمة وغير المسبوقة بعاصمة الشرق الجزائري في شلل حركة السير بالوسط الحضري وأغلقت كامل المنافذ المؤدية إلى المدينة، احتجاجا على توالي انقطاعات التيار الكهربائي لساعات طويلة، فيما عجزت السلطات الأمنية على التحكم في الوضع وتعرض أصحاب المركبات إلى اعتداءات من طرف «بلطجية» استغلوا مشاهد الاحتجاجات وتسللوا مندسين وسط المتظاهرين. ومن المفارقات أن السلطات المحلية «هرولت» لفتح الجسر قبل بلوغ أشغال الترميم نسبة مقبولة، فقط لامتصاص غضب الشارع المحلي الذي يغلي. وفسر متتبعون للموضوع خرجة مديرية الأشغال العمومية التي أقنعت الوالي بالترخيص لفتح جسر سيدي راشد أمام حركة التنقل، بحالة تخبط ظلت تطبع تسيير الشأن العام في ولاية قسنطينة أبرز مناطق الجمهورية الجزائرية. وكشفت مصادر عليمة أن خبراء إيطاليين من مكتب الدراسات الدولي «سينيكسول» أطلقوا تحذيرات بلغت مسامع الوالي نورالدين بدوي، مفادها أن الانهيار سيكون مصير جسر سيدي راشد في حالة بقيت السلطات المحلية تعتمد سياسة «البريكولاج»، بعدما كانت ذات الهيئة الأجنبية قد أبلغت الوالي السابق عبد المالك بوضياف بخطورة الوضع لكنه لم يأبه للأمر عام 2007، قبل أن تستفيق مديرية الأشغال العمومية بعد مرور نحو خمسة أعوام، وتجتهد في إعادة بعث أشغال الترميم التي تكلف – حسب تقديرات الخبراء- مجهودات بنسبة 200 بالمائة، كما أن ذلك ضاعف من التكلفة المالية بما يزيد عن 80 مليار سنتيم أوكلت للشركة «سابتا» بالتعاون مع مؤسسة إيطالية. ويقول متتبعون وخبراء أنه كان بالإمكان تفويت الفرصة على هدر وتبديد المال العام في حال لو أصغى الوالي السابق عبد المالك بوضياف، لمطالب إعادة تأهيل هذه المنشأة الهامة التي طوت هذا العام مئوية للأسف على وقع مشاريع «التطباع»، في حين كان يمكن أن تفتخر سلطات قسنطينة بجسر سيدي راشد في خضم احتفالات خمسينية الاستقلال لأن المنشأة التي يعود تاريخها إلى عام 1912 مرتبطة بأحداث مفصلية هامة توثق لتاريخ مدينة الجسور المعلقة. ويوجد الجسر التاريخي في وضعية كارثية بعد الشروخات العديدة التي ضربت أغلبية الأقواس التي يبلغ عددها 27 قوسا، علاوة على تأثره بأشغال الجسر العملاق بالمدخل الشرقي منه، حيث تسببت الآليات في استئصال نحو 350 شجرة عملاقة كانت تضمن على مدار عقود من الزمن الحماية من التصدعات وانجراف التربة. إضافة إلى انهيار بعض جدران البنايات المجاورة للجسر وتأثره ب»مصبات» الصرف الصحي المنحدرة من المدينة القديمة، بشكل دفع بالخبراء الإيطاليين إلى اعتبار ذلك أبرز مسببات الخطر الداهم. ومثلما ارتكبت إدارة الوالي السابق عبد المالك بوضياف حماقات في غض الطرف عن التحذيرات التي أطلقتها عديد الأطراف رغبة منها في عدم تأجيج غضب المواطنين الذين تستقطب حركة السير بجسر سيدي راشد نحو 70 في المائة، من سكان المدينة أو الوافدين إليها من مختلف النواحي والأحياء والطرقات، ها هي إدارة نورالدين بدوي تحذو حذو سابقه والي ولاية وهران الحالي، بعدما فضلت امتصاص غضب الشارع المحلي وإطفاء لهيب الاحتجاجات على حساب حماية أقدم وأكبر جسر حجري في العالم.. والغريب أن ذلك قوبل بصمت مطبق من قبل نواب البرلمان بغرفتيه وكذا منتخبي المجلس الشعبي الولائي الذين فضلوا بدورهم «الصيام»، لأن الأمر يتعلق أيضا باستحقاق «هام» يوم 28 نوفمبر المقبل بالنسبة للطامعين في الترشح مجددا للانتخابات المحلية، وواضح أن السلطات القائمة أحسنت التوقيت الجيد لاستمرار مسلسل «التطباع والبريكولاج» !!