أزواج كثيرون تعلّقوا بالآية القائلة “المال والبنون زينة الحياة الدنيا" فلا يوجد من لا يتمنى أن يرزق بطفل، غير أن الملاحظ أنهم يهتمون بهم لفترة معينة تاركين- وبدون وعي منهم- تربيتهم للشارع ليزيد هذا من عدد الأطفال الذين باتوا يشكّلون قنبلة موقوتة على المجتمع بسبب سوء التربية. الشارع عامل أساسي في عملية التربية التي عادة ما تكون مليئة بالإنحرافات الأخلاقية، فقد أجمع كثير ممن كان لهم رأي في الموضوع، أننا في زمن انعدم فيه الدور التربوي للأولياء وصارت مهمتهم تقتصر على توفير الماديات، فيما غاب الإهتمام المعنوي وساد الإهمال والتقصير. آباء يرفعون الراية البيضاء عبّر بعض الأولياء عن عدم قدرتهم على تربية أبنائهم كما ينبغي لأسباب عديدة جعلتهم يستسلمون لحقيقة أن الشارع سيفرض قيما معينة على أبنائهم، وسترجح الكفّة له بدليل أعداد الأطفال الذين يتسكّعون في الشوارع لساعات متأخرة ولا يدخلون البيت إلا للأكل أو النوم، والنتيجة تفشّي سلوكات منحرفة عند أطفال في مقتبل العمر على غرار تعاطي السجائر، المخدرات، الكحول ليدخلوا عالم الإجرام من بابه الواسع، وعادة ما نلوم أولئك الأطفال ولكن الأصل أن مسؤولية تربيتهم تقع على عاتق أوليائهم بالدرجة الأولى. عدد الأبناء ومشاكل الحياة.. أبرز الأعذار من خلال احتكاكنا مع بعض الأسر يلاحظ أنهم يولون أهمية كبيرة في تربية الأولاد الأوّلين، وكلّما زاد عدد الأطفال تشتّت جهودهم في التربية، ومن التبريرات التي قدّمها البعض أنه لا يمكن أن يكون كل الأبناء صالحين وإلا ما تجد أحدهم “خارج الطريق” على حدّ تعبيرهم، وبالمقابل نجد من الأولياء من يهملون تربية أبنائهم رغم قلّة عددهم ليشتكوا بعدها تصرفاتهم وأنهم صاروا عبئا عليهم. عدد الأبناء من أهم الذرائع التي قدمّها بعض الأولياء ولكن منهم من وجد الحلّ في أن يتحمل الأبناء الكبار عملية تربية إخوتهم الصغار عادة مالا يستطيع الآباء تقويم سلوك الأبناء في البيوت التي تقطن فيها أكثر من عائلة، وهي النقطة التي أشارت إليها بعض الأمهات. “لا أستطيع تربية أطفالي كما ينبغي والسبب حماتي”، تقول سمية، أم لثلاثة أطفال والتي اشتكت تدخّل حماتها في تربية الأطفال، حيث تمنع عقابهم وتعمل على تدليلهم، والأمر نفسه بالنسبة لمنال أم لطفلين تشتكي من تدخل إخوة زوجها وتقول أنهم يفسدون تربية طفليها. أقّر أولياء آخرون بإهمالهم لتربية أولادهم ولكن السبب يعود حسب هؤلاء لانشغالهم بتوفير ضروريات الحياة، فالأب غارق في العمل والأم منشغلة بأمور البيت، فيما يخرج الأطفال منذ الصباح ولا يعودون أحيانا إلا في ساعات متأخرة من الليل، وأولاد لاهمّ لهم سوى الانتهاء من الدراسة ليحتضنهم الشارع مباشرة. الكلام الفاحش أول أبجديات الشارع أغلب الأطفال الذين تلقوا تربية الشارع يلاحظ فشلهم الدراسي أو الإجتماعي بصورة عامة، حيث يقول بعض الأولياء أنهم لاحظوا تغيّرا في سلوك أبنائهم كلما زاد احتكاكهم مع الآخرين في الشارع وأبرزها الكلام الفاحش، في السياق يقول أحدهم: “أصبحنا لا نستطيع الجلوس في الأماكن العمومية من فداحة ما يتداول فيها، ولكن تلك الكلمات انتقلت لتدخل بيوتنا وصارت تتداول على لسان أطفالنا”. إن الأولياء جميعا ومهما كان حالهم يرغبون في تربية أولادهم تربية سليمة، ولكن ومع تلك العوامل الخارجية وخصوصا ما تعلق بالشارع الذي يفسد تربيتهم إضافة إلى تلك المتغيرات الجديدة التي دخلت في نطاق التربية وأثّرت عليها على غرار الانترنت والهاتف النقال اللذان أصبحا شركاء للأسرة في تمرير نماذج تربوية سلبية أو ايجابية . التربية الأحادية لا تجدي نفعا في كثير من الأحيان من الأمور التي تؤثر سلبا على تربية الطفل هو غياب دور الأب عن هذه العملية وترك المهمة للأم التي تبقى مغلوب على أمرها في كثير من الأحيان، وهو ما أشارت إليه “حميدة” أم لأربعة أطفال والتي اشتكت اهمال زوجها لتربية الأولاد، وعندما اكتشف أن ابنه صاحب 13 سنة يتعاطى السجائر أرجع اللوم على الأم، وقال أنها لم تحسن التربية فيما لا تتذكر هي آخر يوم جلس فيه الأب رفقة ابنه وتحدّث معه عن انشغالاته. في حين حصرت “حميدة عشي” أستاذة علم الاجتماع بجامعة الجزائر، أهم الأسباب التي من شأنها أن تقف عائقا في وجه تلّقي الطفل أسسا تربوية صحيحة منها التفكك الأسري عن طريق الطلاق لأن الطفل يصبح محور صراع بين الأبوين، وبتالي لن يثبت على تربية معينة، إضافة إلى مختلف المشاكل الأسرية التي تجعل الطفل يكره البيت ويفضّل الشارع وهنا تطمس التربية التي تلقاها في البيت. ومن أهم المؤشرات التي تبزر في سلوك الطفل بسبب تربية الشارع تذكر المتحدثة تعلّم كلمات الشارع التي يردّدها بصورة متكررة، اضافة إلى رغبته في الإنقطاع عن الدراسة وكلّما زاد وقت الفراغ كلما زادت علاقته بالشارع. العدوانية وتدني المستوى الدراسي أما عن تأثير هذا الأخيرة فتقول عشي، أنه يعرّض الطفل لمخاطر اجتماعية ونفسية إضافة إلى ما يتلقاه من قيم سلبية وتربية سيئة، ناهيك عن تعرضه لمخاطر جسدية ومنها التحرشات جنسية ما يهدد المجتمع بأطفال قليلي إن لم نقل عديمي التربية على حد تعبير المتحدثة. ومن القيم التي يغرسها الشارع في نفسية الطفل ركّزت الأخصائية الاجتماعية على قيم العنف المعنوي والجسدي، تضيف في هذا الصدد: “العنف هو السمة التي تظهر على الطفل الذي يتلقى تربية الشارع، حيث تكون السلوكات العدوانية واضحة لديه وتزداد كلما زادت ساعات مكوثه في الشارع وأحيانا تكون نتيجة حتمية لفقدان الدفء الأسري لسبب أو لآخر”، إضافة إلى تعلم بعض السلوكات السلبية مثل الكذب، السرقة، فيكون الطفل متسلّطا عصبيا وانفعاليا وغيرها من الاختلالات السلوكية، كما يتأثّر مستواه الدراسي حيث يصبح عديم التركيز ولا يبدي اهتماما بالدراسة”. الحوار، الرعاية والصبر أهم أدوات التربية جاء الإهمال في التربية في زمن نحن بحاجة ماسة إلى مجتمع متعّلم واع، مثقف وأهم شيء على قدر من التربية التي يجب أن تكون في فترة عمرية مبكرة، فمن خصوصيات الطفل أنه يستمّد سلوكياته من البيئة المحيطة بهم سواء البيت الشارع أو في المدرسة، ومن أجل تفادي أن تطغى قيم الشارع اقترحت الأخصائية بعض الحلول التي تعتمد على أسلوب الحوار مع الأطفال، الإهتمام بشؤونهم مع خلق جوّ أسري يقوم على مبادئ تربوية سليمة وفق متطلبات السن، فمن غير المعقول أن ننهى أطفالنا عن سلوك ونأتي مثله. كما تشير أنه لابد من توعية الآباء بأهم الأساليب التربوية وفقا السن الطفل، مع محاولة تلبية الحاجات النفسية للطفل وعدم التركيز على الماديات. حيث يجب إحاطة الطفل بالرعاية الحب والحنان ما يجعله يتشبث ببيته وعوض أن نقدم له المال فكان لابد أن نعرف ما يعانيه، مع الصبر، عدم الملّ من تربية الطفل وتجنب النقاش في لحظات الغضب. حتى لا يكون الشارع وفي لحظة ما مآل الطفل ليصبح عالة على الأسرة والمجتمع ونكبّد الدولة مصاريف مراكز التكفّل وإعادة التربية والإدماج. هل نستطيع أن نمنع أطفالنا عن الشارع؟ من أهم الإشكاليات التي طرحها الكثير من الأولياء في هذا الجانب بخصوص عدم قدرتهم على منع أبنائهم عن الشارع أو عن الإحتكاك بالآخرين، في هذا السياق تجيب الأخصائية الاجتماعية أنه لا يمكن أن نمنعهم ولكن لابدّ من الرقابة المستمرة وتقنين احتكاك الطفل بالآخرين . فإذا كانت التربية سليمة منذ الصغر سيشّب عليها ويصعب بالتالي طمسها.