عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال : (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً. رواه مسلم، والمتنطعون هم المتعمقون المتشددون في غير مواضع التشديد. قال المؤلف رحمه الله تعالى فيما نقله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) الهلاك: ضد البقاء، يعني أنهم تلفوا وخسروا، والمتنطعون هم المتشددون في أمورهم الدينية والدنيوية، ولهذا جاء في الحديث: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم). وانظر إلى قصة بني إسرائيل حين قتلوا قتيلاً فادرؤوا فيه وتنازعوا حتى كادت الفتنة أن تثور بينهم، فقال لهم موسى عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) البقرة، يعني وتأخذوا جزءاً منها فتضربوا به القتيل، فيخبركم من الذي قتله، فقالوا له (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً) يعني: تقول لنا اذبحوا بقرة واضربوا ببعضها القتيل ثم يخبركم عن قتله؟ ولو أنهم استسلموا وسلموا لأمر الله وذبحوا أي بقرة كانت لحصل مقصودهم، لكنهم تعنتوا فهلكوا، قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ ثم قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ ثم قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي وما عملها؟ وبعد أن شدد عليهم ذبحوها وما كادوا يفعلون. كذلك أيضاً من التشديد في العبادة، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك. ومن ذلك ما يفعله بعض المرضى ولا سيما في رمضان حي يكون الله قد أباح له الفطر وهو مريض ويحتاج إلى الأكل والشرب، ولكنه يشدد على نفسه فيبقى صائما، فهذا أيضاً نقول إنه ينطبق عليه الحديث: هلك المتنطعون. ومن ذلك ما يفعله بعض الطلبة المجتهدين في باب التوحيد، حيث تجدهم إذا مرت بهم الآيات والأحاديث في صفات الرب عز وجل جعلوا ينقبون عنها، ويسألون أسئلة ما كلفوا بها، ولا درج عليها سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، فتجد الواحد ينقب عن أشياء ليست من الأمور التي كلف بها تنطعاً وتشقاً، فنحن نقول لهؤلاء: إن كان يسعكم ما وسع الصحابة رضي الله عنهم فأمسكوا، وإن لم يسعكم فلا وسع الله عليكم، وثقوا بأنكم ستقعون في شدة وفي حرج وفي قلق. مثال ذلك: يقول بعض الناس: إن الله عز وجل له أصابع، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) فيأتي هذا المتنطع فيبحث : هذه الأصابع كم عددها؟ وهل لها أنامل؟ وكم أناملها؟ وما أشبه ذلك. كذلك مثلاً: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى الثلث الآخر)، يقول: كيف ينزل؟ كيف ينزل في ثلث الليل وثلث الليل يدور على الأرض كلها؟ معنى هذا أنه نازل دائماً، وما أشبه ذلك الكلام الذي لا يؤجرون عليه ولا يحمدون عليه، بل هم إلى الإثم أقرب منهم إلى السلامة وهم إلى الذم أقرب منهم إلى المدح. هذه المسائل التي يكلف بها الإنسان، وهي من مسائل الغيب، ولم يسأل عنها من هو خير منه، وأحرص منه على معرفة الله بأسمائه وصفاته، يجب عليه أن يمسك عنها، وأن يقول: سمعنا وأطعنا وصدقنا وآمنا، أما أن يبحث أشياء هي مسائل الغيب، فإن هذا لا شك أنه من التنطع، ومن ذلك أيضاً ما يفعله بعض المتشددين في الوضوء، حيث تجده مثلاً يتوضأ ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر، وهو في عافية من ذلك . يذكر أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يتوضأ، فإذا وجهه الأرض التي تحته ليس فيها إلا نقط من الماء، من قلة ما يستعمل من الماء، وبعض الناس تجده يشدد في الماء فيشدد الله عليه، فإنه إذا استرسل مع هذه الوساوس ما كفاه أربع ولا خمس ولا ست ولا أكثر من ذلك، فيسترسل مع الشيطان حتى يخرج عن طوره، حتى يقول: هل أحد عاقل يتصرف هذا التصرف. أيضاً في الاغتسال من الجنابة، تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال، في إدخال الماء في أذنيه، وفي إدخال الماء في منخريه، وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون. هلك المتنطعون. هلك المتنطعون). فكل من شدد على نفسه في أمر قد وسع الله له فيه فإنه يدخل في هذا الحديث.