أكد أن احتكاكه بالعملاق مصطفى كاتب بشكل مباشر، ولّد في نفسه حبا كبيرا للمسرح، وبثها مبادئ الفن الأصيل والإيمان بالجودة التي أضحى يتأسف لفقدانها خلال الأعمال الحالية التي باتت حسب رأيه مجرد عروض لشخصيات تتحرك على الخشبة دون روح تؤثر في نفوس الجماهير، حيث فقدت المتعة وتمثيل دور المرآة العاكسة للمجتمع ركحيا، الأمر الذي دفع بهذه الجماهير إلى هجران المسرح.. جعل منه توقه لجودة عروض الستينات والسبعينات ناقدا مسرحيا يبحث في حيثيات أعمال الماضي ليطبقها على أعمال الحاضر ويبرز الفرق الشاسع بين الفترتين ليس لإحباط فناني الجيل الحالي وإنما لحث محبي المسرح على النهوض بالمنظومة الثقافية ككل باستعمال ديناميكيات فعالة تدفع بوتيرة الأعمال الركحية للدفع بعجلة المجتمع بخطى ثابتة نحو الجدية البعيدة عن صفة الهزل التي التصقت بها منذ فترة.. إنه الناقد المسرحي والأكاديمي، مخلوف بوكروح، الذي سلط الضوء من خلال إجابته عن أسئلة "السلام"، على واقع الأعمال المسرحية، والميكانيزمات الواجب إتباعها للنهوض بهذا المجال، مبرزا الأهمية التي يكتسيها التكوين في هذا المجال. باعتبارك ناشطا في المجال المسرحي، ما تقييمك لمستوى العروض المسرحية الحالية؟ إن التقييم الموضوعي لما يقدم من عروض مسرحية على خشبات مسارحنا يقتضي المتابعة المستمرة للنشاط المسرحي، ورصد الآراء والكتابات النقدية حول الموضوع، ظروفي لم تمكنّي من مشاهدة كل ما يعرض على المستوى الوطني، ومع ذلك يمكنني إبداء بعض الملاحظات السريعة حول العروض التي تقدم في فعاليات ثقافية متنوعة، إن ما يقترحه المسرحيون عندنا متباين من عرض إلى آخر ومن تجربة إلى أخرى.. هناك عروض مقبولة تتوفر على بعض المفردات الأساسية التي يشترطها فن المسرح منها النص والسينوغرافيا والأداء، وبعضها ضعيف لا يرقى إلى مستوى العرض الذي يستحق القراءة والتعليق، فالنصوص المسرحية المقترحة في أغلبها مقتبسة أو مترجمة بشكل سريع وباهت، علما أن الانتقاء الجيد للنص يشكل شرطا أساسيا ينطلق منه المبدع الذكي لنحت عرض مسرحي يتيح الفرجة الممتعة، وعموما أقول أن النصوص المحلية هزيلة كما أن النصوص العربية والأجنبية مشوّهة. وماذا عن الإخراج المسرحي؟ إذا ما حاولنا التحدث عن الإخراج فسأقول أن الإبداع في مجاله منعدم تماما، وذلك راجع إلى عوامل عديدة، أهمها أنه يقوم على الدراسة المعمقة والتصور الخلاق والرؤية الواضحة للعرض، وما نشاهده على خشبات مسارحنا الوطنية اليوم، لا يمكن أن نسميه إخراجا، إذ أنه لا يعدو كونه عبارة عن محاولة تنظيم لحركة الممثلين على خشبة المسرح، وأستطيع تشبيهها في هذه الحالة بحركة تنظيم المرور في شوارعنا التي تفتقر هي الأخرى للانضباط والانسجام، الأمر الذي انعكس على أداء الممثلين، مولدا ضعفا كبيرا هو في الحقيقة انعكاس للضعف الثقافي العام عندنا. يجمع الكثير من النقاد على أن عروض فترة الستينات والسبعينات أفضل بكثير من العروض الحالية ولا مجال للمقارنة، برأيك ما السبب وراء تدني مستوى العروض؟ النشاط المسرحي مرتبط بحركة المجتمع، وأعتقد أن الديناميكية التي شهدتها الساحة المسرحية في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مرتبطة بالسياق العام للبلاد، لا ننسى أننا حديثي العهد بالاستقلال، وقد أثبتت التجربة أن الشعوب التي كانت ترزح تحت نير الاستعمار حققت قفزات نوعية بعد الاستقلال، بمعنى أن حماس ورغبة وصدق المبدعين كان وراء بلوغ هذا المستوى الفني الراقي، فضلا عن التركيبة البشرية التي كانت تمارس الفن في هذه الفترة، فالمسرح الوطني الجزائري كان يضم خيرة المبدعين عندنا ويعتمد على انتقاء النصوص المسرحية الجيدة، ويبدو أن النظرة إلى المسرح تغيرت وأصبحت مرتبطة بالاستهلاك على غرار ما يقدم في مختلف أشكال التعبير الفني التي تقترحها علينا وسائل الإعلام المتنوعة، والمسرح الذي يقدم الآن عندنا ربما يسلي ولكنه لا يثقف. ألا يمكن إرجاع الأمر إلى نقص التكوين المسرحي؟ لا يمكن لأحد إنكار دور التكوين الذي يعتبر عاملا أساسيا في العمل المسرحي، لكنه غير كاف وحده لتأسيس حركة مسرحية نشيطة، حيث يتطلب الأمر تكييف وتغيير السياسات الثقافية والفنية الحالية وقيامها على أسس وإستراتيجيات واضحة المعالم. لم يعد المسرح يستقطب جمهورا كبيرا كما في السابق، فما السبيل لاسترجاع ثقته من جديد حسب رأيك؟ تاريخ المسرح منذ القرن الخامس قبل الميلاد يشهد على ارتباط الجمهور به، حيث اكتسب أهمية كبيرة مفادها طبيعة الفن المسرحي القائمة على الحضور البشري الحي للجمهور والمؤدين، حيث لا يمكن الحديث عن العرض المسرحي في غياب الجمهور الذي يشكل حلقة هامة في الاتصال المسرحي، والحكم على إقبال الجمهور على المسرح مرهون بإقامة نشاط مستمر دائم، من خلال مؤسسة ثقافية تجعل من الاتصال بالجمهور هدفا استراتيجيا يرمي إلى تكوين جمهور وإرساء تقاليد الإقبال على الفضاءات الثقافية، ولا أعتقد أن الطريقة التي تعمل بها مؤسساتنا المسرحية الحالية قادرة على خلق هذا الانشغال الثقافي، فاحتضان الجمهور للمسرح يتطلب اقتراح عروض جيدة ومتنوعة تثير اهتمامه، فضلا عن خلق جو ثقافي ومناخ صحي وتوفير الأمن والمواصلات، وكلها عوامل لم يتم الالتفات إليها بعد. هل ترى أن المعهد العالي للفنون الدرامية قادر اليوم على إعداد جيل متمكن يستطيع استمالة الجمهور تأسّيا بسابقيه؟ يعتبر التكوين عنصرا حيويا في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة، وانطلاقا من هذه الأهمية أولت الدولة عناية خاصة لموضوع التكوين الفني في السنوات الأولى من الاستقلال، وذلك من خلال إنشاء مدرسة الفنون الدرامية ببرج الكيفان، الأمر الذي يدل على التوجه السليم لإعداد كوادر مؤهلة للاضطلاع بمهمة ثقافية وحضارية في المجتمع. ويعود الفضل في إنشاء هذه المؤسسة إلى المرحوم الفنان الكبير مصطفى كاتب. إلا أن إبعاده عن إدارة المسرح الوطني الجزائري خلال العام 1972 جعل المدرسة تعرف اضطرابات عديدة، تارة بتحويل مهامها وتارة أخرى بالغلق التام لقسم الدراما، حيث تعاني هذه المؤسسة من مشكلات متعددة ومعقدة بعضها يعود إلى غياب الرؤية الواضحة للتكوين، والبعض الآخر مرتبط بالتركيبة البشرية التي تشرف على العلمية الإدارية والبيداغوجية على مستواها، إلى جانب ضعف البرامج والمناهج، وبالتالي يستبعد أن يلعب المتخرجون منها نفس الدور الذي اضطلع به سابقوهم في هذا المجال وفق المعطيات الحالية.